وتعد هذه أبرز تصريحات علنية له فيما يتعلق بمسألة الوصول إلى البحر الأحمر. وقد أكد أن الوصول إلى ميناء على البحر الأحمر يعد مسألة ذات أهمية وجودية لإثيوبيا، وحث الشعب الإثيوبي على الدخول في حوار بناء حول هذا الموضوع. وباستخدام خريطة لتوضيح موقع إثيوبيا الجغرافي الذي يقع بين البحر الأحمر والنيل، قال رئيس الوزراء: “ليس من المبرر التأكيد على أن النيل يهم إثيوبيا بينما البحر الأحمر ليس كذلك. مع أن الطبيعة لا تهتم بهذا التمايز”. وشدد على الترابط الوثيق بين البحر الأحمر ونهر النيل، وكلاهما يلعب دورًا أساسيًا في تشكيل مصير إثيوبيا، إما كمحركين للتنمية والريادة الاقليمية أو كمصادر محتملة للخطر.
لعنة الهضبة الحبيسة
من الواضح تمامًا أن آبي أحمد تسيطر عليه لعنة الهضبة الحبيسة وعدم وجود منفذ لبلاده على البحر الأحمر ولذلك يعمل منذ وصوله إلى السلطة على إعادة إحياء الأسطول الإثيوبي. ويعود جوهر الأمر إلى عام 1993 عندما حصلت إريتريا على استقلالها عن إثيوبيا، مما تسبب في خسارة إثيوبيا لمنفذها المباشر إلى البحر الأحمر. ونظرًا لأراضيها غير الساحلية الواسعة، بدأت إثيوبيا بعد ذلك في الاعتماد على ميناء جيبوتي بتكلفة اقتصادية عالية.
لقد قارن رئيس الوزراء آبي أحمد قضية نهر النيل، مع قضية الولوج إلى البحر الأحمر. إذ لا ينبغي – من وجهة نظره-اعتبار فكرة الوصول إلى منفذ على البحر من المحرمات، مثلما يجري نقاش حول النيل بشكل علني في كل من مصر والسودان رغم أن مصدره إثيوبيا. لقد أعرب آبي أحمد عن خيبة أمله، وأعرب عن أسفه لأن مناقشة أجندة البحر الأحمر، حتى على المستوى البرلماني الداخلي، تواجه مقاومة.وتساءل: “لماذا نتهرب من مناقشة الأمر؟، هل مثل هذا النقاش مفيد أم لا جدوى تذكر من ورائه؟، وما هي العواقب إذا شاركنا فيه؟، ولماذا نخشى الحوار؟”. واقترح أنه بينما تجري المفاوضات بشأن نهر النيل، يمكن إجراء مناقشات مماثلة بشأن الوصول إلى البحر الأحمر.ومن الضروري الإشارة إلى أن تصريحات رئيس الوزراء تأتي في أعقاب تكهنات أخيرة تشير إلى أن إثيوبيا تسعى بنشاط للوصول المباشر إلى ميناء على البحر الأحمر، مع الالتزام بتحقيق هذا الهدف من خلال الوسائل السلمية، وحتى بالقوة إذا لزم الأمر. وقد أثارت هذه التصريحات مناقشات حول المصالح الاستراتيجية لإثيوبيا وتأثيرها المحتمل على الديناميكيات الإقليمية.
الأهمية الاقتصادية و”المسألة الوجودية“
يصنف آبي أحمد السعي للوصول إلى البحر الأحمر باعتباره “قضية وجودية بالنسبة لإثيوبيا”، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى تأثيره المحتمل على اقتصاد البلاد. ويؤكد أن الوصول إلى البحر الأحمر من شأنه أن يعزز بشكل كبير النمو الاقتصادي في إثيوبيا. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن اقتصاد إثيوبيا أظهر نموًا مثيرًا للدهشة حتى عندما كانت دولة غير ساحلية وقبل بناء سد النهضة، خاصة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وهذا يثير تساؤلات حول مدى كون الوصول إلى البحر الأحمر محركًا أساسيًا للتقدم الاقتصادي.ويتجلى الافتقار إلى الوضوح في خطاب آبي أحمد بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بأهدافه المحددة. هل يسعى إلى مجرد الوصول، أو إلى منفذ، أو ربما حتى إلى “شريط ضيق من الأرض”؟. وفي الحالة الأولى، قد تكون المفاوضات ممكنة. ومع ذلك، فإنهفي الحالة الثانية يعني فقدان محتمل للسيادة ويمكن أن يؤدي إلى الصراع والصدام العسكري مع دول الجوار المباشر. إن الوضوح بشأن أهداف آبي أحمد أمر ضروري للخطاب الدبلوماسي المثمر.
التفاوض أو الصراع: التحذير المشؤوم
يعرب آبي أحمد مرارًا وتكرارًا عن رغبته في إجراء مفاوضات، لكنه يصدر تحذيرًا من أن “الأمر مسألة وقت حتى يؤدي ذلك إلى صراع” إذا فشلت المناقشات. وهذا التهديد، إلى جانب إصراره على الطبيعة الوجودية للأمر، يثير مخاوف بشأن استقرار إثيوبيا. ويبدو موقف آبي أحمد عدوانيًا ومتناقضًا في نفس الوقت، فهو يصف بلاده بأنها تتعرض للتهديد والانقسام كما هو الحال في أقاليم التيغراي وأورومو وأمهرة بينما يصدر في الوقت نفسه تهديدات لجيرانه. ويبدو أن عقدة المياه تهيمن على تفكير رئيس الوزراء الإثيوبي. إنه يشير إلى أن “إثيوبيا جزيرة محاطة بالمياه، لكنها دولة عطشى. محيط بلادنا كله ماء، لكننا عطشى. لماذا؟: في حين أن الأمطار غزيرة، والمياه الجوفية،… والمحيط الهندي هناك والبحر الأحمر هناك… لماذا تعتبر المياه مشكلتنا ونحن محاطون بالمياه؟”.
ومن الخيارات التي طرحها آبي أحمد لتكون بوابته على البحر الأحمر: أولاً، زيلع في صوماليلاند مستحضرًا قربها الجغرافي والسياق التاريخي في عهد مملكة عفت، وهي إحدى إمارات الطراز الإسلامي السبع التي قامت في الشرق والجنوب الشرقي من الحبشة من القرن الثالث عشر وحتى أوائل القرن الخامس عشر. وثانيًا، جيبوتي، وهو خيار لا تزال تعتمد عليه إثيوبيا. وثالثًا، عدوليس، الواقعة في ساحل إريتريا جنوب مصوع. ومن الممكن النظر إلى مصوع وعصب كخيار آخر.
الدوافع السياسية والقومية
من خلال تأطير قضية الوصول إلى البحر الأحمر على أنها “وجودية”، يضعها آبي أحمد استراتيجيًا على رأس الأجندة الوطنية. لماذا يحدث هذا الآن؟، ويرى البعض أن هذا بمثابة تكتيك لتشتيت الانتباه لأغراض محلية. وقد وصف آبي أحمد إريتريا بأنها كبش فداء مناسب، مما أدى إلى تحويل الانتباه عن التحديات الاقتصادية المحلية. علاوة على ذلك، فهو يسعى إلى تعبئة المشاعر الوطنية، وتكرار الاستراتيجية الشعبوية التي استخدمها في مشروع سد النهضة الإثيوبي الكبير.
ومن خلال استحضار عظمة إثيوبيا التاريخية، يهدف آبي أحمد إلى تهدئة مشاعر أولئك الذين يشعرون بالحنين إلى الماضي الإمبراطوري، وخاصة في منطقة أمهرة. لقد أوضح رئيس الوزراء الذي تهيمن عليه أوهام الملك السابع أن الاستخدام المشترك لمياه النهر والبحر يمكن أن يحقق السلام والوحدة وكذلك الرخاء الشامل لدول القرن الأفريقي. يقول في ذلك: “على سبيل المثال: إذا كانت إريتريا وجيبوتي والصومال وإثيوبيا دولة واحدة – انسوا الفيدرالية أو غيرها من الصيغ – إذا كانوا دولة واحدة بأي شكل من الأشكال، فهل تعتقدون أن الصومال وإثيوبيا وجيبوتي وإريتريا سوف يتسولون؟ إن ذلك يعني أننا أمام روسيا أخرى، أو الصين الأخرى، أو أمريكا الأخرى؛ سوف نصبح بلدًا كبيرًا جدًا”، مضيفًا أنه لكي تتمتع المنطقة بأكملها بالسلام وتضمن الرخاء “أول شيء يجب النظر إليه هو البحر الأحمر. قضية البحر الأحمر تحتاج إلى حوار شامل”. وأوضحآبي أحمد أن حقوق إثيوبيا ومطالباتها بالوصول إلى الميناء متجذرة في أسباب جغرافية و تاريخية وعرقية و اقتصادية، بما في ذلك حقيقة أن حاجة إثيوبيا المشروعة للوصول المناسب إلى البحر تتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة.
وختامًا، يثير خطاب آبي أحمد بشأن الوصول إلى البحر الأحمر تساؤلات مهمة حول الدوافع والنوايا وراء هذه الحملة. وبينما يقدمها كضرورة وجودية لاقتصاد إثيوبيا وأمنها، فإن عدم الوضوح بشأن الأهداف واحتمال نشوب صراع يشير إلى وضع معقد وغير مستقر. علاوة على ذلك، يبدو أن الخطاب يحمل دلالات سياسية داخلية، وربما يهدف إلى حشد المشاعر القومية وتحويل الانتباه عن القضايا الملحة. وعلى المدى القصير، سيكون من الأهمية بمكان مراقبة كيفية تطور نهج إثيوبيا تجاه هذه القضية وكيفية تأثيره على الديناميكيات الإقليمية.في أعقاب اتفاق بريتوريا، الذي كان يهدف إلى إعلان انتهاء الأعمال العدائية مع الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، بدأ الموقف الصدامي لرئيس الوزراء آبي أحمد بشأن البحر الأحمر ومنطقة أمهرة في الظهور والتطور. كانت هناك تكهنات موثوقة بأن الجهات الفاعلة الخارجية التي لها مصلحة في إحداث تغيير في النظام في إريتريا قد تشجع أجندة الحرب لإدارة آبي أحمد في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية. ويبدو أن آبي أحمد ونخبه من الأورومو لديهم رؤية استراتيجية، تركز على إنشاء إمبراطورية أورومو عرقية مع إمكانية الوصول إلى البحر، وخاصة عبر منطقة عصب. وعلى أية حال يظل الوضع محفوفًا بالتعقيدات والشكوك، ومن المؤكد أن تطوره سوف يخلف آثارًا إقليمية كبرى.
أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة