يناير 15, 2025

الأستاذ/ عبد الشكور قوريري سهل: الفوضى الرقمية: مواقع التواصل بين الفائدة والضياع

في زمن أصبحت فيه مواقع التواصل الاجتماعي نافذة العالم على المعرفة والتواصل، قرر الصوماليون تحويل هذه المنصات إلى حِلْبَة مصارعة فكرية لا تُعرف فيها قوانين ولا تُحترم فيها قواعد، فبينما يستخدمها الآخرون لتبادل الأفكار وتطوير المجتمعات، نحن اخترنا أن نجعلها مهرجانًا للجهل، وساحات للقبيلة، ومنصات للمزايدات الساخنة فلا مكان للمنطق بل للصرخات، والشعارات الزائفة، وخبراء يفتون في كل شيء من السياسة إلى الدين والعسكرية والسياسة، والاقتصاد، الفلك، وآخرين يدّعون أنهم خبراء في كل مجال وكأنهم حصلوا على شهادة في علوم كل شيء، وفي الواقع كلهم لا يعرفون حتى ترتيب أيام الأسبوع. كما تجد شخص يشرح السياسة العالمية والمحلية في الصباح ويعطي نصائح دينية في المساء وينهي يومه بنقد عميق للفن الصومالي.

وإذا كنت تبحث عن دراما يومية مجانية، فمرحبًا بك في مواقع التواصل الصومالية، حيث كل شيء مباح إلا التفكير السليم. وتتحول المنصات إلى ميادين حرب، ومسرحيات درامية، ومسابقة من يصرخ أكثر حيث “الفيسبوك” يتحول إلى ديوان القبائل، أما التعليقات فهي مزيج من دعم غير مشروط أو هجوم لاذع لا يخلو من ذكريات شخصية عن القبيلة.

وإضافة إلي ذلك٬ القبلية هي النجم الساطع في سماء الفوضى، حيث يكتب شخصا تغريده عن الحكومة حتى يبدأ المعلقون بالتساؤل “من أي قبيلة أنت”؟ وهل يحق لك كتابة تغريده عن الحكومة بهذه الطريقة؟ ثم يبدأ الجميع بإظهار الولاءات القبلية وكأنها بطاقة هوية رقمية لا يمكن الاستغناء عنها، وتتحول المحادثات العادية غالبا إلى معارك قبلية، والنقاشات الفكرية إلى صراعات شخصية. وأيضا الكذب أصبح فناً معترفاً به، وصناعة “النخب” من الجهلاء أصبحت ظاهرة مقلقة، فيكفي أن ينشئ أحدهم حساباً جديداً، يضع صورة له أمام خلفية فاخرة مسروقة من الإنترنت، ويكتب في الوصف: “محلل سياسي، مستشار اقتصادي، خبير في الشؤون الدولية، حيث ينشرون فيديوهات غريبة يتحدثون فيها عن خططهم لحل مشكلات الأمة وهم لا يعرفون لا شيء.

ومن أخطر وسائل التواصل الحديثة هو برنامج “التيك توك” الذي استطاع مدّة زمنية قصيرة جدًا عبور جميع الحدود، وتحقيق انتشار واسع في الصومال حيث تحول إلى مسرح لانتشار مظاهر الفساد الأخلاقي الذي تهدد قيم المجتمع وتقاليده، فبدلاً من استخدامه كوسيلة للإبداع ومشاركة الأفكار المفيدة، أصبح التطبيق منبرًا لعرض المحتويات المثيرة للجدل، مثل الرقصات الجريئة، والملابس غير المحتشمة، والتصرفات التي تخالف القيم الإسلامية والموروث الثقافي للصوماليين.

وأساء الكثير استخدام هذا التطبيق وفتح الباب على مصراعيه للعديد من الظواهر الشاذة للظهور للعلن، فالرجل الذي كان يخجل من التعرف على النساء وإقامة علاقات غير شرعية أصبح بإمكانه ذلك وبسهولة، والجاهل الغبي الذي كان يخاف لوم واستنكار المجتمع أصبح بإمكانه الاعتراف بجهله بكل حرية، والفتاة التي كان يمنعها آباؤها من الحديث مع الشباب أصبح بإمكانها فعل ذلك واكثر، فأصبحت الانفلات من القيود أخلاقية سمة للنجاح.

الأسوأ من ذلك أن هذه السلوكيات تُقابل بتشجيع من شريحة كبيرة من الشباب الباحثين عن الشهرة السريعة والمال، حيث يتم التنافس على جذب المشاهدات بأي ثمن دون مراعاة للعواقب الأخلاقية أو الاجتماعية، مما يزيد من تطبيع هذه الظواهر ومع غياب الرقابة المجتمعية وضعف التوجيه الأخلاقي، كما اثر هذا التطبيق سلبًا على الشباب الصومالي لا سيما الفتيات، حيث يُستغل لإبراز سلوكيات تتنافى مع دورهن الطبيعي كركيزة أساسية في بناء المجتمع، وللأسف تُقابل هذه التصرفات غالبًا بتشجيع أو تبرير من البعض في حين يتجاهل المجتمع دور الرقابة والتوجيه.

ويعتقد الكثير من الصوماليين أن انتشار الفساد الأخلاقي على منصات التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك”، “تيك توك”، “سناب شات”، “وتليغرام”، هو نتيجة لما يُعرف بـالغزو الفكري، وهو أخطر وأكثر فتكا وأقوى أثرا من جميع الغزوات التي عرفتها البشرية من قبل، وهدفه هو تدمير الأمة وتعرض العقول الناشئة من الفساد والبلوى وتنحية الأفكار السليمة الصالحة لتحل محلها أفكار أخرى غريبة شرقية أو غربية، ويعزو هؤلاء الانتشار الواسع لهذه الظواهر إلى ضعف الرقابة الدينية والاجتماعية، بالإضافة إلى الانفتاح غير المنضبط على محتويات تتنافى مع القيم الإسلامية، ما يتطلب توعية أوسع وجهوداً متضافرة لحماية هوية المجتمعات.

وفي ظل هذا الانحدار الأخلاقي والفوضى التي تعصف بمواقع التواصل الاجتماعي الصومالية، يبرز غياب دور الأسرة والمجتمع في التوجيه، وصوت العلماء والدعاة الذي يُفترض أن يكونوا حراس الأخلاق والقيم والدين للتصدي لهذه الظواهر، فالمنصات التي كان يمكن أن تكون ميادين للوعي والنقاش الهادف، أصبحت منبرا للفساد والخرافات والفتن القبلية، وفي غياب هذا الدور التنويري أصبح المجال مفتوحًا للجهلة والتافهين الذين ينشرون الجهل والقبلية، مما يفاقم الفساد الفكري والاجتماعي، ولمواجهة هذا الخطر يجب العمل إلى توعية الشباب بمخاطر هذه المنصة وتعزيز القيم الأخلاقية بالرجوع إلى الإعلام والدعوة، بالإضافة إلى فرض رقابة صارمة على المحتويات التي تتعارض مع الأخلاق والمبادئ.

وفي الختام، كما نعلم جميعا إن أول أسباب انهيار الأمم كثرة الفساد في الأرض وكثرة الخبث، وان أزمة المجتمع الصومالي ولا سيما جيل الشباب في هذا العصر هي أزمة العلم والمعرفة وقلة القراءة، ولذلك يجب أن نفهم أن قوة البلد تعادل مجموع ملكات أفراده العلمية. وربما يومًا ما عندما يقرر الصوماليون استخدام هذه المنصات كما ينبغي سنرى تحولًا حقيقيًا، ولكن حتى ذلك الحين، سنري مزيدا من الفوضى الرقمية لأن العقلانية لا تزل في إجازة طويلة ومع ذلك، يبقى السؤال ألاهم: هل نحن بحاجة إلى طبيب نفسي أم إلى “واي فاي” أضعف؟.

عبد الشكور قوريري سهل

كاتب صومالي

Written by admin
×