في زمن العولمة والانفتاح الثقافي، يتزايد التأثير الغربي على كثير من شعوب العالم، بما في ذلك المجتمعات الأفريقية والإسلامية، حيث نجد من ينبهرون بالحضارة الغربية إلى درجة تجعلهم يرونها النموذج الأمثل في كل شيء، ويرددون أن الغرب أذكى وأكثر تطورًا من شعوبهم. وقد زادت في السنوات الأخيرة ظاهرة تقليد الغرب في مختلف مناحي الحياة، حتى في المأكل والمشرب والملبس والمظهر، بل وحتى في طريقة التفكير. وقد دفع هذا التقليد الكثيرين إلى ترك الثوابت التي تربّوا عليها والقيم التي يفترض أن يتمسكوا بها كمسلمين، مما أدى إلى استبدال التقاليد الغربية بالعادات الإسلامية، والتهاون في تطبيق أخلاق الإسلام في معظم جوانب حياتنا.
أسباب الانبهار بالغرب
ينبع هذا الانبهار من عدة عوامل، من أبرزها السيطرة الإعلامية والثقافية للغرب التي تروّج لفكرة تفوقه في كل المجالات. كما أن ضعف النظام التعليمي في الدول الإسلامية والأفريقية، نتيجة السيطرة الخارجية، جعل الأجيال الجديدة تجهل إنجازات حضارتها وتاريخها، إضافةً إلى ذلك، أدى الفشل السياسي والاقتصادي في بعض الدول الإسلامية والأفريقية إلى جعل الكثيرين يبحثون عن نموذج بديل يرونه في الغرب.
تمرّ الشعوب الإسلامية اليوم بمرحلة من أصعب فترات تاريخها، إذ تواجه تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية كبرى. وكان سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 نقطة تحول كبيرة في تاريخ المسلمين، حيث فقدت الأمة الكيان السياسي الذي كان يجمعها تحت مظلة واحدة، ويرمز إلى وحدتها وهويتها الإسلامية، ومنذ إلغاء الخلافة، قُسِّمت الدول الإسلامية إلى كيانات صغيرة، وأصبحت الحدود التي رسمها الاستعمار تفصل بين الشعوب، مما جعل العالم الإسلامي عرضة للسيطرة السياسية والاقتصادية من قبل القوى العالمية الكبرى.
من المعلوم أن الأمم الغالبة تسعى دائمًا إلى فرض أفكارها وثقافتها على الأمم المغلوبة، ليس بالقوة العسكرية فحسب، بل أيضًا من خلال التأثير الثقافي والفكري. فهي تعمل على نشر لغتها وعاداتها ونظمها الاجتماعية، حتى تصبح نموذجًا يُحتذى لدى الشعوب التي وقعت تحت نفوذها. ولم يكن غريبًا أن تتأثر شرائح من الأمة الإسلامية، بما في ذلك في الصومال، بهذه الهيمنة الثقافية، حيث تبنّت نمط الحياة الغربية وتباهت بلغتها وثقافتها، ظنًّا منها أن ذلك دليل على الرقي والتطور.
وفي السنوات الأخيرة، برزت في المجتمعات الإسلامية فئات انبهرت بالحضارة الغربية، وسعت إلى تقليدها في كل شيء، من العادات الاجتماعية إلى القيم الفكرية والسياسية، معتقدةً أن النموذج الغربي هو الأفضل والأذكى مقارنة بثقافات الشعوب الأفريقية والإسلامية. ولم يقتصر هذا التأثير على المظهر الخارجي فحسب، بل امتد إلى طرق التفكير والنظرة إلى التراث والهوية، مما خلق فجوة بين هؤلاء ومجتمعاتهم الأصلية.
ازدواجية القيم الغربية
الحقيقة التي يغفل عنها كثيرون هي أن المنظومة القيمية والأخلاقية التي يتباهى بها الغرب ليست إلا أداة وغطاء لتبرير سياساته والتغرير بغيره. فمتى اقتضت المصلحة، دعم الغرب حلفاءه على حساب خصومه، متجاهلًا شعاراته حول الديمقراطية وحقوق الإنسان. ورغم ادعائه التقدم والتحضر، لا تزال نظرة الاستعلاء الاستعمارية حاضرة في تعامله مع الشعوب الأخرى، حيث ينظر إلى غير الأوروبيين وكأنهم أقل شأنًا ثقافيًا وحضاريًا.
هذه النظرة تُترجم إلى سياسات تمييزية وأحكام مسبقة تضع الشعوب غير الأوروبية في مرتبة أدنى، مما يبرز التناقض بين الخطاب المعلن والممارسات الفعلية. والدليل على ذلك أن الغرب يمارس اليوم دكتاتورية سياسية واقتصادية لا مثيل لها، حيث يخاطب الدول والحكومات في العالم بمنتهى الغطرسة والعنجهية، ويضعها أمام خيارين: إما أن تكون معه أو ضده.
التبعية اللغوية والثقافية
من المظاهر الواضحة للتأثير الغربي في المجتمعات الإسلامية هي هيمنة اللغات الغربية، مثل الإنجليزية والفرنسية، حتى أصبح يُقاس مستوى علم الإنسان وتميّزه بمدى إتقانه لهذه اللغات. وأصبح كثير من المسلمين رهائن للغرب حتى على مستوى اللغة، بينما كانت العربية لغة العالم حين كان المسلمون روّاد الحضارة والعلم. وهذا يعكس كيف أن بعض المسلمين صاروا كالدُّمى التي تُحركها القوى الخارجية في مختلف الاتجاهات، دون وعي أو إدراك لهويتهم الحقيقية.
يمكن القول إن ظاهرة التقليد الأعمى للغرب أدت إلى العديد من الأزمات التي نعاني منها على مستوى الأفراد والشعوب والدول. فقد ضاعت المبادئ والقيم، وتحكّمت الأهواء، وأصبحنا منهزمين أمام كل ما هو غربي، دون أن نأخذ من الغرب ما ينفعنا، مثل التطور العلمي والتكنولوجي والتقدّم في الإدارة والتنظيم. وبدلًا من ذلك، استوردنا منهم أمورًا سطحية مثل أنماط الحياة والتسلية الفارغة، دون أن نلتفت إلى جوهر تقدمهم الحقيقي.
الاستفادة من الغرب دون فقدان الهوية
لا شك أن الغرب قد حقق تقدّمًا كبيرًا في العلوم والتكنولوجيا والتنظيم الاجتماعي، لكن ذلك لا يعني أن المجتمعات الأخرى أقل قيمة أو ذكاءً. فكل حضارة لها نقاط قوتها وضعفها، والإسلام قدّم للعالم حضارة عظيمة أثّرت في تطوره العلمي والثقافي، ولا يزال يمتلك قيمًا أخلاقية وإنسانية تحتاجها البشرية اليوم.
ليس هناك مانع من التعلم من الغرب والاستفادة من تجاربه، لكن يجب أن يكون ذلك دون ذوبان أو تقليد أعمى، ينبغي أن نعيد الاعتبار لهويتنا وثقافتنا، ونركّز على التعليم والتنمية الذاتية، حتى ننهض بمجتمعاتنا دون الاعتماد الكلي على الآخرين. فكل إنسان يمتلك قدرات تميّزه، ولا يوجد شخص عاجز عن تحقيق التقدم إذا كان يؤمن بقدراته ويسعى لتطويرها.
الخاتمة
إن التقليد الأعمى للغرب ليس إلا انعكاسًا لفقدان الثقة بالنفس والهوية. صحيح أنه يمكننا أن نتعلم من إنجازات الغرب ونستلهم من تجاربه، لكن يجب أن يكون ذلك ضمن إطار يحترم ثقافتنا وقيمنا. فالشعوب التي تنبهر بالآخرين دون إدراك قوتها الداخلية تظل عالقة في دوامة التبعية. علينا أن نستعيد الاعتزاز بهويتنا، ونستثمر في تعليمنا وتنميتنا، ونؤمن بأن التقدّم الحقيقي يبدأ من الداخل، وليس من محاولة تقليد الآخرين بلا وعي.
إن الوعي بالذات هو السبيل لبناء مستقبل مشرق ومتوازن، حيث يجتمع الأصالة والانفتاح في إطار متكامل. التقدّم الحقيقي يبدأ عندما نؤمن بقدراتنا ونعمل على تطويرها، دون أن نكون أسرى لصورة مثالية عن الآخر. فالغرب ليس مثاليًا، ونحن لسنا عاجزين، ولكل أمة دورها في بناء عالم أكثر عدالة وتوازنًا.
عبد الشكور قوريري سهل
كاتب صومالي