أثار القرار الذي أصدرته الحكومة الصومالية بنبش القبور، ونقل رفات الموتى من قبورهم في أكاديمية الشرطة بمقديشو؛ لإنشاء مقر جديد للبحرية الصومالية، جدلا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي، ولقي هذا القرار موجة نقد شعبية عاصفة، وإن كانت أسباب هذا النقد اختلفت باختلاف الناقدين، ونظرتهم إلى الموضوع من زوايا متباينة.
نودّ أن نقف في نقاط سريعة عند مواقف الحكومة والعلماء في هذه القضية؛ اِذْ كان واضحا أن الحكومة لما شعرت حساسية هذا الأمر، وما يمكن ان يثيره من موجة غضب عارمة في الرأي العام الصومالي لجأت إلى العلماء؛ لإصدار فتوى دينية في جواز النبش ونقل الرفات. ولكن فلا الحكومة أحسنت في إداراة الأزمة، ولا العلماء وفّقوا في تنزيل فتواهم على الواقع؛ لأنّ الحكومة ربّما نسيت أوتناست أنّ هذه القضية ليست مجرد قضية دينية، يحسم الأمر فيها باللجوء إلى العلماء؛ لمعرفة الحكم الفقهي للمسألة جوازا أو عدمه، وإنّما لها جوانب أخرى سياسية واجتماعية وحتى عاطفية، كان ينبغي للحكومة أن تراعيها وتاخذها بعين الاعتبار، وذلك من خلال صوغ خطاب سياسي متماسك مستند إلى دراسة شاملة لخلفيات القرار، والمآلات التي يمكن أن ينتهي اليها.
وكان تردد الحكومة، وتناقض مواقفها، وضبابية خطابها في القضية، مما زاد من ريبة الشعب؛ اِذْ أنه في بداية الأمر، وعند تسرب خبر عزم الحكومة في النبش، وتداوله في وسائل الإعلام، بادرت الحكومة بنفي هذا الخبر نفيا باتا، ثم تجدد الخبر، وشاع أمره مرة أخرى، فاضطرت الحكومة إلى الاعتراف بصحته، وأكدت عزمها على تنفيذ قرارها، مستعينة بفتوى دينية من بعض العلماء، متوهمة أن الفتوى الدينية كافية لتهدئة ردود الأفعال الشعبية الغاضبة، ولكن على العكس مما توهموه، فإنّ ظهور العلماء في جولة تفقدية لأرض المقبرة مع وفد من الحكومة الصومالية، وإطلاقهم الفتوى على رؤوس الموتى، زاد من إشعال الغضب الشعبي بدل ما تمنته الحكومة من إخماده.
أخطأ العلماء التقدير في جانبين، الجانب الأول: تماهيهم مع قرار الحكومة تماهيا مطلقا، وكان بإمكانهم أن يكتفوا بإصدار الفتوى الدينية في الموضوع دون الانزلاق إلى حملة التعبئة التي تقودها الحكومة لتنفيذ قرارها، والجانب الثاني: تركيزهم على بيان الحكم الشرعي للمسألة ، دون مراعاة الظروف، والسياقات، ومآلات تنزيل الفتوى على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والنفسي والعاطفيّ للأمة؛ فما كل جائز في الشريعة يحسن تطبيقه تطبيقا آليا في جميع الظروف، فإنّ الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتمنى هدم الكعبة، وإعادتها على قواعد إبراهيم، ولكنه امتنع عن ذلك؛ مراعاة لظروف أهل مكة، وحداثة عهدهم بالإسلام، وتعظيمهم الكعبة، وما يمكن أن يسببه هدمها في نفوسهم من الريبة والخوف والقلق، وإذا كان الرسول- وهو نبي يوحى- قد فعل هذا من أجل أهل مكة، لقرب عهدهم بالإسلام، فما بالك بالصوماليين، وهم أمة عاشت منذ الاستقلال في ظروف قاسية شديدة القسوة، وحروب، وقتل، ودماء، وتشريد، وبعد كل هذه المعاناة، فإنهم لا شكّ ليسوا مهيئين نفسيا ولا عاطفيا لرؤية تلك المشاهد المرعبة، من نبش القبور، وصور إخراج رفات الموتى من مرقدهم، فعلاوة على ما استقرّ في نفوسهم من حرمة الميت وتعطيمه، فإنّ ذلك يذكّرهم بلعنة التشريد التي تلاحقهم أحياء وأمواتا، وهذا بحد ذاته كاف لإعادة النظر في قرار النبش وتجميد الفتوى المساندة له، حتى تهدأ النفوس، وتستعيد الامة قوتها وثقتها بنفسها، وتتخفف من أوجاع ذكرياتها الأليمة. باختصار، قرار الحكومة يعوزه الحكمة، وفتوى العلماء تفتقر إلى مراعاة الواقع، واعتبار ظروف الامة.
المصدر من صفحة الاستاذ عبدالواحد عبدالله شافعي في الفيسبوك