يتمثل جوهر الأزمة الصومالية، في أن بعض دول الجوار تخشى، إن استعاد الصومال عافيته، أن يفكر باستعادة حدوده التاريخية، كما أن الأطراف الداخلية لا تجنح للتفاوض إلا وهي منهكة، وهذا ما يسهل بروز قوى جديدة رافضة للتفاوض، واستمرار الأزمة.
تتميز الأزمة الصومالية عن غيرها من الأزمات الأخرى مثل الأزمة اللبنانية أو أزمة كوسوفو، بقدرتها على التغذية “الذاتية” المستمرة للعنف. |
وتتجلى هذه الظاهرة “الصوملة” في مؤتمرات المصالحة التي كثيرا ما تكون فرصة لتعلن فيها القوى الصاعدة عن نفسها، وغالبا ما يكون تبنيها لمنطق القوة بمثابة الإعلان عن خلافتها لسابقاتها من القوى الآفلة.
وهذا ما يفسر اقتناع “أمراء الحرب” بقبول التفاوض والنزوع إلى المصالحة في كينيا 2005؛ حيث تم التوافق بينهم على تشكيل حكومة مركزية بقيادة عبد الله يوسف أحمد بديلاً عن الرئيس عبدي قاسم صلاد -الذي تخلف عن تزكيته أربعة منهم في اجتماع عرتا عام 2000- ثم عُقد لاحقا أول اجتماع للبرلمان داخل الصومال، وتم اختيار عبد الله يوسف أحمد، إلا أن الأمور لم تستمر في مسارها، حيث ظهرت “المحاكم الإسلامية” ليتجدد الصراع وبمعطيات جديدة وبزخم جديد.
وبدورها لم تقتنع المحاكم بالتفاوض في بادئ الأمر، وخاصة بعد تجربتها مع إثيوبيا التي استنجد بها الرئيس عبد الله يوسف أحمد حينها، ولكنها اتجهت لاحقا نحو المصالحة لتعارضها بالمقابل “حركة شباب المجاهدين” التي كانت منضوية تحت لوائها، ثم انقسمت المحاكم هي نفسها بين جناحين، “جناح جيبوتي” و”جناح أسمرة”، وانقسم من ورائهما تحالف إعادة تحرير الصومال. وبهذا كان مشروع المصالحة هو نهاية وحدة المحاكم وبتأكيد على ظاهرة “الصوملة”.
كما يتميز مسار الأزمة الصومالية بالتشابك الوثيق بين عاملين أساسيين: داخلي وخارجي، والعامل الداخلي أساسه “صراع الفرقاء” على السلطة، وقد يتخذ الصراع طابعا قبليا أو قد يتستر بقناع أيديولوجي شفاف أو معتِم، وهو عامل يتنافس في التأثير على مجريات الأزمة مع عامل آخر، هو العامل الخارجي.
وهذا الأخير أسهم في تطور الأزمة الصومالية لتصبح مع الوقت جزءاً من الصراع الإقليمي بين دول المنطقة، حتى إن إثيوبيا المتورطة في الصومال، تبدو وكأنها في نزاع مع إريتريا من جهة، وفي نزاع آخر مع مصر من جهة أخرى.
الصوملة والدول المجاورة
مشروع المصالحة.. تقدم وعثرات
الصوملة والدول المجاورة
وبالعودة للعامل الخارجي، فهو يتمثل بالتدخل الخفي أحيانًا والمكشوف أحيانًا أخرى لدول الجوار الراغبة في إغراق الصومال بمشاكله الداخلية، وبما يعزز ظاهرة “الصوملة” لينصرف الصوماليون عن التفكير باستعادة حدود الصومال التاريخية.
فدول الجوار قلقة من يقظة شعور قومي أو ديني صومالي قد يدفع بالصومال إلى فتح جبهة مع إثيوبيا وكينيا لاستكمال تجسيد وطن “الصومال الكبير” -الذي ترمز إليه النجمة الخماسية في العلم الصومالي- بتحرير الأقاليم الصومالية خارج حدود الدولة عشية استقلالها عام 1960.
فقد تأسست إثيوبيا وكينيا على حساب وحدة الصومال؛ فإثيوبيا استأثرت بإقليم أوغادين الذي يمثل حاليًا الإقليم الخامس من الدولة الإثيوبية، في حين ضمت كينيا ما يُعرف بإقليم “الحدود الشمالية” والذي يقطنه نحو مليونين من الصوماليين.
تأسست إثيوبيا وكينيا على حساب وحدة الصومال؛ فإثيوبيا استأثرت بإقليم أوغادين الذي يمثل حاليًا الإقليم الخامس من الدولة الإثيوبية، في حين ضمت كينيا ما يُعرف بإقليم “الحدود الشمالية” والذي يقطنه نحو مليونين من الصوماليين. |
بل -وفي السياق نفسه- يعتبر الكثيرون أن جذور الأزمة الصومالية تعود لهزيمة سياد بري عام 1978 في الحرب الصومالية الثانية التي خاضها ضد إثيوبيا لاستعادة إقليم أوغادين، أي أنها تعود لمحاولة الصومال استعادة حدوده، وبذلك بدأ العد التنازلي لنهاية حكم بري، وبسعي خاص من إثيوبيا التي عملت على تسليح وتدريب الجماعات القبلية المختلفة للإطاحة بالحكم.
وقد دعمت إثيوبيا العديد من الحركات كتلك التي تأسست في الشمال، منها الحركة الوطنية الصومالية التي أسستها قبيلة إسحق عام 1980، ثم الجبهة القومية الصومالية المشكَّلة من قبائل الماجرتين والأوجادين، والمؤتمر الصومالي الموحَّد المؤلَّف أساسًا من قبيلة الهُوية عام 1989، كما وقع في نفس العام تمرد المناطق الجنوبية بزعامة قبيلة هرتي والتي حصلت على مؤازرة كينيا بالإضافة إلى إثيوبيا.
فهذا كله جعل الصومال في حالة تضرر مستمرة من جواره الذي قامت بعض سياساته على تفكيك وحدة الصومال الداخلية، والذي بدأ بتشجيع التمرد على نظام بري وإغراقه بالأسلحة، واستمر حتى الآن باتباع هذه الدول إستراتيجية إلهاء الصوماليين بالنزاعات التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد.
وتمثل جيبوتي استثناء عن الجارتين الأخريين: إثيوبيا وكينيا، فقد سعت مرارا لإعادة الاستقرار إلى الصومال في سبيل إعادة التوازن الإقليمي مع الجارة الكبرى إثيوبيا، وكي لا تنفرد هذه الأخيرة بالهيمنة في المنطقة أولاً، وثانيًا بسبب الروابط الدينية والعشائرية والثقافية التي تجمع بين جيبوتي والصومال؛ حيث إن قبيلة العيسى التي تشكِّل الأغلبية السكانية في جيبوتي وبيدها أمور الدولة، تنحدر من الصومال أو بالأحرى هي قبيلة صومالية.
أما الصراع الأريتري الإثيوبي فيبقى مؤثرًا كذلك على الأزمة الصومالية؛ حيث تتحالف أسمرة مع المعارضين لأديس بابا والواقفين في وجه سياساتها بالمنطقة، وبما أن إثيوبيا تُعد حليفة للحكومة الانتقالية الجديدة؛ فإن أسمرة تعلن معاداتها لها وتعمل على إفشال مهمة المصالحة التي تقول الحكومة إنها تسعى لتحقيقها، وتحتضن وترعى المعارضين للرئيس شريف شيخ أحمد، وفي مقدمتهم جناح تحالف إعادة تحرير الصومال المتبني لأجندة أسمرة والمناوئ لاتفاق جيبوتي 2008.
ويبدو أيضا أن بعض الدول الكبرى لا سيَّما الولايات المتحدة -وهي الفاعل الدولي الأبرز في الصومال- قد عززت من سياسات بعض دول الجوار؛ فواشنطن القلقة من تنامي نفوذ التيارات الإسلامية -مثل شباب المجاهدين والجماعة الإسلامية- تقوم بتنسيق جهودها في هذا الشأن مع إثيوبيا باعتبار أن الأخيرة تشاطرها نفس المخاوف، وبهذا التقت جهود البلدين حول بعض السياسات التي حوَّلت الصومال إلى مسرح لحرب أميركية حقيقية ومفترضة، مع القاعدة والمجموعات المرتبطة بها، وآليًّا ستزيد هذه الحرب من أمد عُمر الأزمة الصومالية بما يمدد للنفوذ الإثيوبي في البلاد.
مشروع المصالحة.. تقدم وعثرات
لا يكاد مشروع المصالحة واستعادة الاستقرار في الصومال يتقدم خطوة واحدة حتى يتراجع خطوات، متأثرًا بمواقف أطراف الأزمة، وحرصهم على الحصول على مكاسب يمثل فيها البعد الأجنبي نسبة معتبرة تعكس في الغالب اهتمام الأطراف الخارجية، إن لم نقل مصالحها. وقد زاد الطين بلَّة مستجدات طارئة كصعود وتنامي الأحزاب الإسلامية المتشددة، وضاعف ذلك من تعقيد هذا المشهد وربطه بالأجندات الخارجية، وما زالت الاستفادة من تراكم التجارب والجهود التي بذلها المجتمع الدولي محدودا، خاصة أن ما أُنفق من وقت ومال وجهد ليس قليلا، وتمثل بعضه في إدارة وتنظيم ما يزيد على عشرين مؤتمرًا أو مبادرة استضافتها دول إفريقية وعربية عديدة؛ بدءًا من المبادرة التي رعتها دولة جيبوتي عام 1991، وأسفرت حينها عن تشكيل برلمان مؤقت من 123 شخصية، وتوصية بأن يصبح علي مهدي محمد رئيسا للبلاد، وأن يُختار رئيس حكومة من الشمال، انتهاء بمؤتمر عرتا الذي احتضنته جيبوتي عام 2000، والذي عُقد برعاية الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى كالاتحاد الأوربي وجامعة الدول العربية.
الأطراف المناوئة للحكومة الصومالية أو الرافضة للمصالحة ترى أن أميركا تمعن في فرض “وصايتها” على الحكومة المحلية، وأنها تحرك الحكومة الحالية في كل ما تقوم به ضد مناوئيها. |
ومثل هذا الأخير محطة بارزة في تاريخ المصالحة حيث انتهى باختيار مجلس وطني انتقالي بلغ 245 عضوا وتمثلت فيه النساء والأقليات، كما تم التخلي في هذا المؤتمر عن نظام المجلس الرئاسي وانتُخِب عبدي قاسم صلاد حسن رئيسا للصومال، ونجح هذا الأخير في تشكيل أول حكومة للبلاد منذ انهيار حكومة سياد بري عام 1991.
وبتأسيس مؤتمر عرتا لأسس نظام جديد في الصومال بغضِّ النظر عن فعاليته، فإنه قد مهَّد للمحطة التالية في المصالحة والتي تم فيها التحاق تحالف إعادة تحرير الصومال المعارض (جناح جيبوتي) في 26 أكتوبر/تشرين أول 2008، بمسار التسوية السياسية عبر اتفاق وقَّعه بجيبوتي مع الحكومة الانتقالية، ويقضي بوقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإثيوبية ليتم في 31 يناير/كانون الثاني 2009 انتخاب الشيخ شريف شيخ أحمد، الرئيس السابق للمحاكم الإسلامية، رئيسا للبلاد.
أما المجموعات التي التحقت بمشروع المصالحة لاحقا فكانت حركة “السنة والجماعة” الصوفية التي تحارب حركة الشباب والحزب الإسلامي لتعرضهم لأضرحة الزعامات الروحية للطرق الصوفية بالصومال، وقد تم الاتفاق معها منتصف شهر مارس/آذار عام 2010، على أساس تقاسم السلطة ومنح الحركة خمس حقائب وزارية مع منصب نائب رئيس الأركان.
فمشروع المصالحة يبدو أنه يتقدم ببطء وبتعثر، ومن الصعب تصور إطلاق أية مبادرة جديدة في هذا السياق؛ لأن هناك عدة عقبات لا تزال تواجهها:
-
أولها: أن حركة الشباب والحزب الإسلامي يسيطران على أكثر من ثلثي البلاد، وما لم تسيطر الحكومة فعليًا على الأرض إلى الحد الذي يجبر الطرف المقابل على الإصغاء على أقل الأحوال؛ فإن فرص إيجاد حل ستصبح أمرًا متعذرًا. ولكن وقوف المجتمع الدولي موحدًا -تقريبًا- خلف الحكومة، وعزلة مناوئيها ربما سيكون في صالح الحكومة على المدى المتوسط والطويل، خصوصا وأن هناك إرادة دولية تؤيد بل تضغط على الحكومة للقيام بهجوم شامل على مناوئيها في إطار تنفيذ التزامها بتحقيق الاستقرار والأمن، خاصة بعد تحسن وضعها بانضمام حركة السنة والجماعة إليها، وهذه الأخيرة تسيطر على مناطق في الوسط، ويقاتل في صفوفها العديد من جنرالات الجيش السابق، وأمراء الحرب السابقين.
-
ثانيها: ويتمثل في المحافظة على ما تحقق من إعادة بناء لمؤسسات الدولة، وعلى رأسها البرلمان الذي انتخب حتى الآن أربعة رؤساء، والحيلولة دون تفكك أو خروج القوى التي التحقت بمشروع المصالحة خاصة وأنه عند كل استحقاق دستوري أو انتخابات تنشب خلافات بين الأطراف المنخرطة في المصالحة، وهناك مسألة تحقيق الأمن والاستقرار بما يحفظ لمؤسسات الدولة القدرة على الاستمرار والحياة. كما يمثل إعادة بناء الأجهزة الأمنية بالسرعة المطلوبة واحدًا من التحديات الداخلية الكبرى لبسط نفوذ الحكومة على المزيد من المناطق، وبما يمكنها من القدرة على حماية مشروع المصالحة بغض النظر عن تفاصيله.
-
يبدو أنه يتقدم ببطء وبتعثر، ومن الصعب تصور إطلاق أية مبادرة جديدة في هذا السياق؛ ثالثها: الخروج من دوامة الصوملة، وهو أمر لا يتأتى بسهولة ولن يتحقق إلا على مراحل، ويحتاج على العموم إلى قناعة أو تسليم من الأطراف المحلية وهي في أوج قوتها -وليس في حال ضعفها فقط- بضرورة إنهائها، وكذلك يتطلب تسليمًا من دول الجوار -راغبين أو مكرهين- بالعدول عن اللعب على إيقاعها أو تغذيتها، وقد يتحقق هذا الأمر بمراقبة دقيقة لما تقتضيه مصالح الدول الكبرى في المنطقة.
-
رابعها: قبول دول الجوار بتحييد الصومال عن النزاعات فيما بينها؛ فالمشاكل القائمة بين كل من إثيوبيا وإريتريا من جهة، وبين إثيوبيا ومصر من جهة أخرى، تحول دون التوصل إلى أرضية صالحة لإطلاق أية مبادرة، وتؤثر سلبا وبشكل مباشر على جهود المصالحة بالصومال؛ حيث تتعارض مصالح هذه الدول، أو تعرقل جهود بعضها البعض كنوع من تصفية الحسابات. ومن ذلك على سبيل المثال رفض إثيوبيا وكينيا من حيث المبدأ إشراك حركة الشباب والحزب الإسلامي في المصالحة بدعوى أن هذه الخطوة تهدد مصالحها القومية.
-
خامسها: تقليص تدخل الكبرى في الشؤون الصومالية الداخلية، خاصة وأن الأطراف المناوئة للحكومة أو الرافضة للمصالحة ترى أن أميركا تمعن في فرض “وصايتها” على الحكومة المحلية، وأنها تحرك الحكومة الحالية في كل ما تقوم به ضد مناوئيها.
_______________
أعدت الورقة بالتعاون مع مراسل الجزيرة محمد صوفي.
المصدر/ جوهر الأزمة الصومالية وتحديات المصالحة | مركز الجزيرة للدراسات (aljazeera.net)