أكتوبر 11, 2024

حدود ومحفزات الصعود الكيني في شرق افريقيا

تتجدد طموحات كينيا لتصبح القوة الإقليمية القائدة والمحورية في منطقة شرق أفريقيا خلال المرحلة المقبلة، مستغلة ما تتمتع به من مقومات متنوعة تؤهلها للعب هذا الدور، وبيئة تفاعلات إقليمية تشهد تحولات استراتيجية حاسمة ربما تسهم في إعادة تشكيل الترتيبات الإقليمية بالمنطقة خلال الفترة المقبلة، من أبرزها التراجع الإثيوبي في المنطقة بسبب حرب تيجراي التي اندلعت منذ نوفمبر 2020، والأزمات الدولية التي تستمر تأثيراتها على اقتصادات دول شرق أفريقيا حتى هذه اللحظة. ناهيك عن المساعي الأمريكية لإعادة هندسة المنطقة في ضوء الاستراتيجية الجديدة التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية تجاه أفريقيا التي أطلقتها في أغسطس 2022 بهدف التصدي للنفوذين الصيني والروسي المتصاعدين في أفريقيا بشكل عام وشرق أفريقيا بشكل خاص.

ويتزامن ذلك مع بعض التغيرات والتطورات التي طرأت على المشهد السياسي الكيني والمتمثلة في صعود الرئيس الكيني الجديد ويليام روتو إلى السلطة عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت في أغسطس 2022، والذي حدد رؤيته للسياسة الخارجية الكينية خلال الفترة المقبلة بالتركيز على الدائرة الأفريقية وإعطاء الأولوية للدور الكيني في المنظمات الإقليمية الأفريقية بهدف تعزيز حضورها ونفوذها على الصعيدين الإقليمي والقاري، وهو ما يبرر الانخراط الكيني في عدد من الملفات والقضايا الاستراتيجية في المنطقة خلال الفترة الراهنة مثل الأزمة الإثيوبية وأزمة شرق الكونغو الديمقراطية.

ومع ذلك، من المتوقع أن تواجه كينيا المزيد من المقاومة من جانب بعض دول المنطقة للحيلولة دون تنامي الدور الكيني على حساب طموحاتها الإقليمية وعلى رأسها إثيوبيا ورواندا وأوغندا، الأمر الذي يمكننا من طرح تساؤل حول مستقبل التنافس الإقليمي في شرق أفريقيا خلال الفترة المقبلة.

المصالح الكينية في منطقة شرق أفريقيا
هناك جملة من المصالح الاستراتيجية لكينيا في شرق أفريقيا، يتمثل أبرزها فيما يلي:

1- الزعامة الإقليمية في شرق أفريقيا: تدرك كينيا أن الظروف الدولية والإقليمية الراهنة قد تكون مواتية لنيْل هذه المكانة الإقليمية ولعب دور إقليمي رئيسي في المنطقة بعدما تراجع طوال السنوات الماضية لصالح إثيوبيا التي تشهد حاليًّا سياقًا مضطربًا سياسيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا منذ اندلاع الحرب التي دارت رحاها في إقليم تيجراي شمالي البلاد في نوفمبر 2020، وهو ما جدد الطموح الكيني لتعزيز مكانتها في الإقليم.

2- تعزيز الاستقرار الإقليمي في المنطقة: تحرص نيروبي على أن تتواجد وسط محيط إقليمي مستقر أمنيًّا وسياسيًّا نظرًا لتأثرها المباشر بالاضطرابات والصراعات في ظل التداخل القبلي والجوار المباشر في بعض الأحيان مثل الصومال. وفي ضوء مساعيها إلى تعزيز علاقاتها مع دول المنطقة، وتوسيع تجارتها مع دول الجوار الإقليمي؛ وهو ما يبرر انخراطها في عدد من الأزمات الإقليمية بالمنطقة مثل الأزمة الصومالية والأزمة الإثيوبية وأزمة شرق الكونغو الديمقراطية.

3- بوابة المنطقة إلى العالم الخارجي: تسعى كينيا إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع دول الشرق الأفريقي، وأن تكون نقطة اتصال مهمة بين العالم الخارجي وشرق أفريقيا بما في ذلك العمق الأفريقي في البحيرات العظمى ووسط أفريقيا. إضافة إلى توسيع دورها كمرتكز إقليمي محوري لنقل البضائع من وإلى دول شرق أفريقيا. وذلك من خلال تطوير موانئها البحرية لتكون بوابة الدول الحبيسة بالمنطقة للمياه الدافئة مثل ميناء لامو الذي يعد جزءًا رئيسيًّا من مشروع لابسيت LAPSSET الرابط بين كينيا وبعض دول المنطقة مثل إثيوبيا وجنوب السودان وجنوب السودان. بالإضافة إلى ميناء مومباسا الجاري تطويره لاستيعاب حركة التجارة الإقليمية واحتياجات بعض دول البحيرات العظمى الحبيسة مثل أوغندا ورواندا وبوروندي، لا سيما أن كينيا تمثل عنصرًا رئيسيًّا في المنطقة بالنسبة لمبادرة الحزام والطريق التي أعلنت عنها الصين في سبتمبر 2013، مما قد يعزز الدوافع الكينية لتعزيز نفوذها الاقتصادي في شرق أفريقيا.

4- التصدي للمهددات الأمنية الإقليمية: تخشى نيروبي تفاقم الأوضاع الأمنية في محيطها الإقليمي، في ضوء مخاوفها من تأثير نظرية الدومينو الذي يجعلها عرضة للمزيد من الهجمات الإرهابية كما هو الحال في الصومال التي تنشط فيها حركة شباب المجاهدين وتتمدد تهديداتها لتطال الداخل الكيني على مدار السنوات الماضية، وهو ما يبرر مشاركة قواتها ضمن بعثة “أتميص” التابعة للاتحاد الأفريقي العاملة في الصومال. كما شكلت الحرب الإثيوبية في إقليم تيجراي تحديًّا أمنيًّا بالنسبة لكينيا خوفًا من تمدد التهديدات الأمنية إلى العمق الداخلي.

5- لعب دور بارز في الاتحاد الأفريقي: تدرك كينيا أن توسيع تحركاتها داخل أروقة الاتحاد الأفريقي من شأنه تعزيز الدور الكيني الإقليمي في المنطقة وأفريقيا بشكل عام، وهو ما قد يعززه اختيار كينيا رئيسًا للاتحاد الأفريقي خلال عام 2023 خلفًا للسنغال بما يسمح لها بالانخراط بشكل أكبر في القضايا الأفريقية. كما سيعزز المكانة الكينية في المجتمع الدولي باعتبارها أحد الأصوات التي تمثل القارة الأفريقية في المحافل الدولية وتدافع عن قضاياها.

6- شرطي الغرب في إقليم شرق أفريقيا: تَعتبر كينيا أن مسعاها للزعامة الإقليمية في المنطقة هو بمثابة خطوة أولى لتقديم صورة للغرب على أنها لاعب رئيسي في شرق أفريقيا وحليف قوي يمكن للقوى الدولية الفاعلة مثل الولايات المتحدة الأمريكية الوثوق به والاعتماد عليه في عدد من الملفات وخاصة مجال مكافحة الإرهاب في شرق أفريقيا.

مُحفِّزات تنامي الدور الإقليمي لكينيا
يمكن الإشارة إلى أبرز المُحفِّزات التي من شأنها أن تعزز المساعي الكينية للعب دور إقليمي قائد في منطقة شرق أفريقيا على النحو التالي:

1- توافر الإرادة السياسية: يبدو أن الساسة الجدد في كينيا سوف يسعون إلى صقل السياسة الخارجية الكينية بهدف تعزيز دورها الإقليمي ومشاركتها في إدارة الشئون الإقليمية، وذلك من خلال تطوير أجندة واضحة للتحركات الإقليمية والدولية التي من شأنها تحقيق التوازن بين المصالح الكينية والمصالح الدولية في شرق أفريقيا، وهو ما يتوافق مع رؤية الرئيس روتو للسياسة الخارجية الكينية خلال فترة ولايته الأولى[1].

ويمثل ذلك امتدادًا لسياسة الرئيس السابق أوهورو كينياتا خلال فترة ولايته التي استمرت نحو تسع سنوات، حيث أطلقت حكومته عقب توليه السلطة في عام 2013 وثيقة للسياسة الخارجية الكينية التي تحدد العلاقات الدبلوماسية والعلاقات الخارجية لكينيا، وهي أول وثيقة مكتوبة تخص السياسة الخارجية للبلاد منذ نيل الاستقلال، وهي تهدف بالأساس إلى توسيع التعاون الإقليمي والقاري، وتعزيز المصالح الاقتصادية الكينية، وإحياء الوحدة الأفريقية، حتى وإن أخفق كينياتا في خلق توازن إقليمي ودولي يعزز به الدور الكيني في المنطقة خلال سنوات حكمه بسبب تهميشه للعلاقات مع الغرب بسبب الاتهامات الغربية التي وجهت له في قضايا العنف أمام المحكمة الجنائية الدولية[2].

2- تعافي الاقتصاد الكيني: تعد كينيا قوة اقتصادية دافعة في شرق أفريقيا، حيث تمتلك اقتصادًا قائمًا على السوق كما أنها النموذج الاقتصادي الأكثر ليبرالية في المنطقة، وهو ما يعزز الكفاءة الاقتصادية والمنافسة وتشجيع الاستثمارات الأجنبية في البلاد[3]. إذ تعد كينيا واحدة من أسرع الاقتصادات نموًّا في أفريقيا جنوب الصحراء، وهي ضمن المراكز الثلاثة الأولى في سهولة ممارسة الأعمال والابتكار[4]. فقد بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي في كينيا أكثر من 5% خلال العقد الماضي، ومنذ عام 2014 صُنفت كينيا على أنها دولة ذات دخل متوسط منخفض[5].

ويعتبر الاقتصاد الكيني محوريًّا داخل جماعة شرق أفريقيا، فهو الاقتصاد الأكبر والأكثر ديناميكية من بين الدول الأعضاء. كما أنه يرتبط بشكل أفضل باقتصادات دول المنطقة من حيث تدفقات الاستثمار والتجارة، فهناك شركات كينية تعمل في بعض دول الإقليم مثل بنك كينيا التجاري وبنك الأسهم ومجموعة نيشان ميديا. وتمثل كينيا المصدر الرئيسي للاستثمار الأجنبي المباشر لدول الجوار الإقليمي، وهي تعد وجهة استثمارية جاذبة بحيث أضحت ثاني أكبر مستفيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المنطقة بإجمالي 14.4 مليار دولار في عام 2018[6].

ويُتوقع أن يظل اقتصاد كينيا قويًّا بفضل قاعدة رأس المال البشري الأكثر تقدمًا، وكونه الاقتصاد الأكثر تنوعًا، فضلًا عن كون كينيا رائدًا في ثورة الاتصالات المعلوماتية في شرق أفريقيا. كما تستند الهيمنة الاقتصادية الإقليمية لكينيا إلى قطاع خاص قوي تطور في ظل سياسات رشيدة. فضلًا عن تمتع كينيا بدرجة كبيرة من الاستقرار السياسي نسبيًّا، فهي لم تشهد تحولات حاسمة في مسار العملية السياسية خلال السنوات الأخيرة، في الوقت الذي تشهد فيه بعض دول المنطقة حالة من الاضطراب السياسي والأمني مثل إثيوبيا والصومال والسودان.

كما تمتلك كينيا رؤية وطنية استراتيجية تهدف إلى تحويل البلاد إلى دولة صناعية حديثة ومتوسطة الدخل بحلول عام 2030. وهي تستند في ذلك إلى ثلاث ركائز؛ أولاها: الركيزة السياسية التي ترتبط بالحفاظ على وحدة الأمة الكينية، واستمرار نظام ديمقراطي في السلطة. وثانيتها: الركيزة الاقتصادية التي تسعى للحفاظ على النمو الاقتصادي واستدامته بنسبة 10% سنويًّا لمدة 25 عامًا. وثالثتها: الركيزة الاجتماعية التي تحرص على الاستثمار في رأس المال البشري من أجل تحسين نوعية الحياة في مختلف المجالات مثل التعليم والصحة والمسكن[7].

وقد استمر الاقتصاد الكيني في التعافي من آثار جائحة كوفيد-19 في عام 2022 مع زيادة الإنتاج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 6% سنويًّا خلال النصف الأول من عام 2022، قبل أن يتضاءل هذا الانتعاش بسبب تأثير الأزمات العالمية التي أثرت على سلاسل التوريد وأسعار السلع الغذائية، وهو ما دفع البنك المركزي الكيني إلى رفع سعر الفائدة ثلاث مرات منذ مايو 2022 بمقدار 175 نقطة أساس لتصل إلى 8.75% وذلك استجابة لضغوط التضخم.

ومع ذلك، تبدو التقديرات المستقبلية إيجابية بالنسبة للنمو الاقتصادي الكيني على المدى المتوسط، فمن المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.2% في المتوسط خلال الفترة بين عامي 2023 و2024 بالرغم من الصدمات العالمية الراهنة[8].

3- المحيط الإقليمي المضطرب: بمقدور كينيا الاستفادة من اضطراب الوضع الراهن في بعض دول شرق أفريقيا، خاصة أن نيروبي بات يُنظر إليها على أنها فاعل إقليمي مؤثر في المنطقة، وشريك محتمل في منطقة مضطربة.

إذ تعيش كينيا وسط سياق إقليمي مضطرب ومعقد سياسيًّا وأمنيًّا، حيث تواجه شرق أفريقيا بما في ذلك القرن الأفريقي والبحيرات العظمى العديد من التحديات التي تؤثر على الأمن والاستقرار والتنمية.

فهناك تحولات مضطربة في دول إثيوبيا والسودان والصومال وجنوب السودان. كما يعزز الصراع المسلح في شرق الكونغو الديمقراطية حالة عدم الاستقرار الإقليمي في البحيرات العظمى. ففي إثيوبيا، لا يزال المشهد العام يتسم بالضبابية في ضوء جملة التحديات التي تمر بها البلاد مثل عدم الاستقرار السياسي وانعدام الأمن والصراعات العرقية وتوسع نشاط بعض الميلشيات المسلحة في البلاد، وذلك بالرغم من التوصل لاتفاق وقف الأعمال العدائية في نوفمبر 2022 بوساطة الاتحاد الأفريقي.

لكن تظل المخاوف قائمة من انهيار هذا الاتفاق واستئناف القتال مجددًا في شمال إثيوبيا. كما يتوقع أن يتفاقم النزاع السوداني-الإثيوبي على منطقة الفشقة المتنازع عليها بين الطرفين خلال الفترة المقبلة برغم اتفاق الجانبين السوداني والإثيوبي على تسوية النزاع سلميًّا.

وتظل التهديدات الأمنية تمثل عامل قلق مستمر لدى دول المنطقة في ضوء تصاعد نشاط الإرهاب لا سيما حركة الشباب المجاهدين في الصومال وتمددها إلى بعض مناطق الجوار الإقليمي مثل كينيا وإثيوبيا. إذ لا تزال الحركة تؤثر على المنطقة في ضوء هجماتها الإرهابية المتكررة في الداخل الصومالي وفي بعض دول الجوار. إضافة إلى نشاط تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في الصومال عند مرتفعات جل جلا بولاية بونت لاند، فضلًا عن تهديدات داعش في شمال موزمبيق والذي ينشط هناك منذ أكثر من خمس سنوات. إلى جانب التوترات الأمنية المتصاعدة في شرق الكونغو الديمقراطية بسبب تزايد نشاط حركة 23 مارس المسلحة الذي أسهم في تصعيد الخلافات السياسية الراهنة بين رواندا والكونغو الديمقراطية[9].

4- كينيا وسيط إقليمي مقبول: تسهم كينيا في ازدهار واستقرار منطقة شرق أفريقيا بشكل واضح. وهي تستند في ذلك إلى علاقاتها الجيدة التي تربطها بدول المنطقة، ودبلوماسيتها التي باتت تلعب دورًا مهمًا في تسوية بعض الخلافات والنزاعات الراهنة في القرن الأفريقي والبحيرات العظمى، وهو ما يُحفِّز الطموح الكيني للعب دور أكبر في المنطقة خلال الفترة المقبلة.

5- ثقة المجتمع الدولي في كينيا: يدرك المجتمع الدولي محورية الدور الكيني في شرق أفريقيا بما في ذلك القرن الأفريقي، وذلك انطلاقًا من الاعتراف بقدرة كينيا على الحفاظ على النظام الدولي القائم في الإقليم، ولعب دور مهم في صنع وحفظ السلام والأمن الإقليمي في ضوء دعمها لجهود السلام الإقليمي لا سيما في الصومال وجنوب السودان.

وينظر الغرب إلى كينيا على أنها واحدة من أكثر الديمقراطيات استقرارًا في شرق أفريقيا، كما أنها تلعب دورًا مهمًا في تحقيق الاستقرار والسلام هناك. وقد يعني التقارب الكيني مع الغرب على الصعيدين السياسي والاقتصادي أنها رسخت نفسها كمركز سياسي واقتصادي لوجستي لمنطقة شرق أفريقيا[10].إذ تنظر أوروبا إلى كينيا كشريك إنمائي استطاع الاهتمام بسياسته الداخلية على حساب دورها الإقليمي في فترة زمنية معينة، إلا أن التحولات الاستراتيجية التي تطرأ على المشهد الإقليمي من شأنها أن تدفع الأوروبيين إلى تغيير نظرتهم تجاه الدور الإقليمي لكينيا وفقًا للاعتبارات الجيوسياسية المستجدة[11].

ملامح التحركات الكينية في الإقليم
تحاول كينيا المضي قدمًا نحو تعويم دورها الإقليمي في شرق أفريقيا من خلال زيادة مساحة حركتها عبر الانخراط في العديد من الملفات والقضايا الإقليمية بالمنطقة. ويمكن الإشارة إلى أبرز التحركات الإقليمية لكينيا على النحو التالي:

1- الوساطة من أجل تسوية الأزمات الإقليمية: تعد كينيا شريكًا حيويًّا في معالجة أزمات السلام والأمن المتعددة في شرق أفريقيا[12]، حيث توصف بأنها دولة محورية وضامنة للعديد من عمليات السلام في الإقليم، خاصة أنها تمتلك خبرات كبيرة في مجال الوساطة وبناء السلام وإعادة الإعمار ما بعد الصراع، كما أنها تدعم العديد من المبادرات في مجال تعزيز السلام الإقليمي في المنطقة ومناطق الجوار الإقليمي بما في ذلك السودان وجنوب السودان وإثيوبيا والصومال وأوغندا والكونغو الديمقراطية وبوروندي وأفريقيا الوسطى وموزمبيق[13].

وتتحرك كينيا على كافة المستويات من أجل ضمان لعب دور تدخلي قوي في مجال السلم والأمن الإقليمي في القرن الأفريقي والبحيرات العظمى، وهو ما برز في تحركاتها لتسوية بعض أزمات المنطقة مثل الأزمة الإثيوبية وأزمة شرق الكونغو الديمقراطية.

إذ نجح الرئيس السابق أوهورو كينياتا في لعب دور رئيسي في الوساطة بين حكومة الكونغو الديمقراطية وحركة 23 مارس المسلحة، وذلك بعدما كلفه الرئيس الكيني الجديد ويليام روتو لمواصلة جهود السلام الإقليمي في البحيرات العظمى. وكان كينياتا جزءًا من الوساطة في الأزمة الإثيوبية ومفاوضات السلام بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيجراي في بريتوريا بجنوب أفريقيا. كما احتضنت نيروبي وفدي طرفي الصراع الإثيوبي لمواصلة المفاوضات وصولًا إلى اتفاق نيروبي بشأن وقف إطلاق النار ونزع سلاح جبهة تحرير تيجراي في 7 نوفمبر 2022[14].

وقد استهدفت نيروبي من خلال هذه الوساطات تحسين صورتها وتعزيز سمعتها على الصعيدين الإقليمي والدولي، فهي تسعى إلى تقديم نفسها إقليميًّا بوصفها طرفًا فاعلًا وشرعيًّا وأكثر مصداقية في مسألة الأمن والسلم الإقليميين بشرق أفريقيا. وتقدم نفسها للمجتمع الدولي والقوى الفاعلة أيضًا على أنها شريك مهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي بالمنطقة[15].

2- نشاط كيني داخل أروقة المنظمات الإقليمية والدولية: تعتبر كينيا عضوًا نشطًا في بعض المنظمات القارية والإقليمية الأفريقية مثل الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية IGAD وجماعة شرق أفريقيا EAC، وهو أمر مهم لتعزيز حضورها على الساحة الأفريقية. كما أنها عضو نشط في مجلس السلم والأمن الأفريقي، حيث انتهت عضويتها التي استمرت لمدة ثلاث سنوات بالمجلس في 31 مارس 2022. فيما تشغل كينيا بعض المناصب القيادية في بعض المنظمات الإقليمية، حيث يشغل بيتر موتوكي ماثوكي منصب الأمين العام لمجموعة شرق أفريقيا حتى عام 2026، وهو ما يعزز النفوذ الكيني داخل أروقة المنظمة[16]، فمن خلال هذه المنصات المهمة تستطيع كينيا الدفاع عن القضايا الأفريقية ودفع الاهتمام الدولي بأجندة القارة الأفريقية، وإيجاد حلول دائمة لعدم الاستقرار والصراعات في منطقتي الساحل والقرن الأفريقي[17].

وتعد كينيا مساهمًا نشطًا في برامج الاتحاد الأفريقي. ففي عام 2014، قدمت نيروبي نحو 1.1 مليون دولار لدعم صندوق التراث العالمي الأفريقي. وفي عام 2015، تم انتخاب الرئيس السابق كينياتا رئيسًا للآلية الأفريقية لمراجعة النظراء، وهي التي تقيس التقييم والرصد الطوعي بشأن التقدم الذي تحرزه الدول الأفريقية في تحقيق الحكم الرشيد[18]. وقد شغلت كينيا منصب عضو غير دائم في مجلس الأمن الدولي خلال عامي 2021 و2022، وتولت منصب رئاسة مجلس الأمن في أكتوبر 2021 بالتناوب.

3- مركز تجاري إقليمي في المنطقة: تحولت كينيا إلى مركز مالي وتكنولوجي إقليمي رئيسي في شرق أفريقيا. فهي تتمتع بمناخ أعمال جاذب وإمكانات اقتصادية كبيرة مقارنة بمحيطها الإقليمي. ومن المتوقع أن يصبح الاقتصاد الكيني هو الأسرع نموًّا في القارة الأفريقية خلال السنوات الخمس المقبلة.

وتمثل كينيا مركزًا تجاريًّا للمنطقة، فهي توفر للدول غير الساحلية (الحبيسة) مثل أوغندا وجنوب السودان ورواندا وبوروندي إمكانية الوصول إلى مياه المحيط الهندي عبر ميناء مومباسا. وذلك في إطار مساعيها لتصبح بوابة إلى شرق ووسط أفريقيا، وفي نفس الوقت معبرًا للمنتجات الأفريقية المتجهة إلى آسيا وأوروبا عبر ميناء مومباسا[19].

كما تتبنى كينيا سياسة خارجية تقوم على الازدهار الاقتصادي من خلال تشجيع العلاقات التجارية مع الحلفاء الدوليين التقليديين مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، وتنويع العلاقات الاقتصادية لتشمل أسواقًا جديدة، بالإضافة إلى تعزيز التجارة مع الدول الأفريقية، حيث وقعت نيروبي اتفاقيات تعاون اقتصادي وتجاري مع بعض الدول مثل نيجيريا وغانا. ووقعت على اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية في مارس 2018، فهي من أوائل الدول الأفريقية مع غانا التي صادقت على هذه الاتفاقية في إطار مساعيها لجني العديد من المكاسب الاقتصادية التي تقدمها تلك الاتفاقية القارية[20].

وقد صنفت كينيا كواحدة من الدول الصاعدة للتجارة العالمية وفقًا لمؤشر Trade20، إذ إن عضويتها في التكتلات الاقتصادية الإقليمية إلى جانب المميزات الخاصة بالبنية التحتية الجيدة وسهولة ممارسة الأعمال التي تتمتع بها إنما تعمل على تعزيز مكانة كينيا كبوابة للأسواق الأفريقية. وتتبنى كينيا قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كعامل تمكين رئيسي للنمو الاقتصادي في المستقبل. وهي تهدف من ذلك إلى ضمان توافر خدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث تعد كينيا موطنًا لأكثر من 200 شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا، كما أنها المقر الرئيسي للشركات متعددة الجنسيات في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مثل إنتل Intel وجوجل Google. كما تتميز كينيا بأنها تمتلك واحدة من أسرع شبكات الإنترنت في المنطقة نظرًا لمرور كابلات الألياف الضوئية تحت سطح البحر بالقرب منها[21].

فيما تركز كينيا في علاقاتها مع دول الجوار الإقليمي على مسار يرتكز على التجارة والاستثمار بدلًا من الاستحواذ على الموارد والمعادن، وذلك بهدف تجنب الدخول في منافسة مباشرة مع المصالح الغربية التي تستغل الثروات الأفريقية لا سيما في شرق الكونغو الديمقراطية. إذ إن سعي كينيا لإقامة علاقات تجارية ثنائية مع الدول الأفريقية يمنح نيروبي نفوذًا اقتصاديًّا أكبر على الصعيد الإقليمي، ويبعد عنها فكرة الاستغلال والتنافس على الثروات الأفريقية.

فقد سارعت نيروبي عقب انضمام الكونغو الديمقراطية لجماعة شرق أفريقيا لإبرام عدد من الاتفاقيات التجارية الثنائية معها، كما أرسلت بعثة تجارية إلى العاصمة كينشاسا مؤلفة من 200 عضو في نوفمبر 2021 لاستكشاف الفرص الاستثمارية والتجارية وتعميق العلاقات الاقتصادية بين البلدين[22]، فيما تعهدت نحو 26 شركة كينية باستثمار نحو 1.6 مليار دولار في مشروعات وقطاعات مختلفة بالكونغو الديمقراطية[23]. كما تعتبر كينيا خامس أكبر مستثمر أجنبي في تنزانيا والتي بلغت استثماراتها هناك حوالي 1.7 مليار دولار بواقع 518 مشروعًا وفقًا لتقديرات عام 2016[24].

4- الاستجابة للتحديات الأمنية الإقليمية: مارست كينيا على مدار سنوات طويلة دورًا بارزًا في مجالات تعزيز السلام والأمن الإقليميين عبر صنع وحفظ السلام والوساطة النشطة والاستجابة للتحديات الأمنية مثل مواجهة الإرهاب. فلم يقتصر دورها على مواجهة حركة الشباب المجاهدين الصومالية باعتبارها إحدى الدول الأفريقية المساهمة ضمن قوات الاتحاد الأفريقي الانتقالية في الصومال (أتميص) ومن قبلها قوات (أميصوم)، بل دعمت نيروبي أيضًا جهود السلام الإقليمية لا سيما في الصومال وجنوب السودان والكونغو الديمقراطية.

فقد نشرت نيروبي نحو 200 جندي إضافي من قواتها الحكومية لدعم عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام في كينشاسا في عام 2021[25]. كما أرسلت في 12 نوفمبر 2022 قوة عسكرية إضافية قوامها 100 جندي إلى شرق الكونغو الديمقراطية عقب موافقة البرلمان الكيني على نشر حوالي 900 جندي هناك لتكون جزءًا من القوة الإقليمية التي تستهدف مواجهة تمرد حركة 23 مارس. وهي قوات تعمل ضمن القوة الإقليمية لمجموعة شرق أفريقيا التي وافق عليها رؤساء الدول الأعضاء في يونيو 2022 وتتألف من كتيبتين عسكريتين من أوغندا ومثليهما من بوروندي وكتيبة واحدة من جنوب السودان تحت قيادة كينية[26].

وتلعب كينيا دورًا رئيسيًّا في عمليات دعم السلام متعددة الأطراف، حيث أسهمت بأكثر من 55 ألف جندي في مختلف بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بحوالي 40 دولة. كما تسهم أيضًا في تدريب العاملين بالبعثات الأممية في المركز الدولي للتدريب على دعم السلام في العاصمة نيروبي[27].

فيما شاركت كينيا بشكل واضح في تعزيز الدبلوماسية الوقائية وحفظ السلام وحل النزاعات وإعادة الإعمار ما بعد الصراع في أفريقيا، حيث أشار الرئيس السابق كينياتا في نوفمبر 2021 إلى أن بلاده تستضيف أكثر من 600 ألف لاجئ فرَّ معظمهم من الصومال وجنوب السودان إلى الداخل الكيني تحت مظلتي الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة[28].

وجدير بالإشارة إلى أن كينيا تقوم بدور قوي في حفظ السلام الإقليمي بهدف حماية مصالحها الاقتصادية والنهوض بها، وهو ما يجعل دورها يتجاوز فكرة حفظ السلام، إذ تتبنى نيروبي سياسة التدخل العسكري في المناطق المضطربة جنبًا إلى جنب مع توسيع التدخلات الاقتصادية حول التجارة والاستثمار من أجل ضمان سلام دائم. لذلك، نجد أنها حذرة في تفسير مشاركاتها العسكرية على أنها تتعلق بتأمين مصالحها الحيوية، خوفًا من اتهامها بالمشاركة في التنافس الدولي على الثروات المعدنية والطبيعية في أفريقيا لا سيما شرق الكونغو الديمقراطية[29].

5- تعزيز التكامل الإقليمي والاستفادة منه: وهو يمثل إحدى القوى الدافعة لاستمرار الاستثمار في البنية التحتية للنقل في كينيا التي تدرك جيدًا أن البنية التحتية الحيوية هي مفتاح التنمية الاقتصادية في أفريقيا. لذلك تقوم نيروبي بتعزيز نفوذها الإقليمي من خلال تحسين بنيتها التحتية لتلبية احتياجاتها الإنمائية، وكذلك التحول لمركز تجاري إقليمي، وذلك من خلال تطوير وتحديث ميناءي مومباسا ولامو بالتعاون مع الصين التي تساندها في هذا الشأن، حيث يعتبر مشروع تحديث خطوط السكك الحديدية الكينية هو المشروع الاستثماري الرئيسي للصين في البلاد[30]، وهو الذي يربط مدينة مومباسا الكينية بكل من كمبالا في أوغندا وكيغالي في رواندا وجوبا في جنوب السودان، وذلك في إطار عملية التكامل الإقليمي تحت مظلة جماعة شرق أفريقيا[31].

وخلال السنوات الأخيرة، دشنت كينيا عددًا من مشروعات البنية التحتية بهدف تحسين الكفاءة اللوجستية وتعزيز موقعها كمركز لوجستي إقليمي. ومن أبرز الأمثلة أعمال التوسع في ميناء مومباسا الذي يخدم معظم دول الجوار غير الساحلية مثل أوغندا والكونغو الديمقراطية وجنوب السودان. إذ تعد أوغندا أكبر مستخدم للميناء الكيني، حيث استغلت نحو 25% من إجمالي عمليات الشحن بالميناء في عام 2018. كما أنه يخدم أجزاء من دول تنزانيا وبوروندي ورواندا[32].

كما يعد مشروع لابسيت LAPSSET الكيني بمثابة أكبر مشروع بنية تحتية في شرق أفريقيا والأكثر طموحًا، فهو يجمع بين دول كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان. ويتكون هذا المشروع من ستة مشروعات رئيسية، وسيكون أساسًا مركزيًّا لنقل البضائع المتجهة إلى موانئ دار السلام في تنزانيا ومابوتو في موزمبيق[33].

6- تصاعد القوة الناعمة الكينية: تتمتع كينيا بمشاركة واسعة في تقديم المساعدات الإنسانية للاجئين وطالبي اللجوء وضحايا الكوارث الطبيعية والأوبئة في أفريقيا بشكل عام وشرق أفريقيا بشكل خاص.

فقد أسهمت نيروبي في مكافحة وباء إيبولا في غرب أفريقيا من خلال إرسال عدد من العاملين في القطاع الصحي الكيني إلى دولتي سيراليون وليبيريا في عام 2015. كما قدمت الحكومة الكينية بعض المساعدات المادية للدول المتضررة. وفي مايو 2020، أرسلت نيروبي نحو 500 متخصص في القطاع الصحي إلى سيشل لمساعدة مقدمي الرعاية الصحية المحليين على التعامل مع تفشي جائحة كوفيد-19[34].

الأطراف المنافسة للدور الكيني في الإقليم
تواجه كينيا مقاومة من بعض الأطراف الإقليمية في شرق أفريقيا التي ترى في الصعود الكيني على المستوى الإقليمي خصمًا من نفوذها وحضورها هناك، وهو أمر ممتد على مدار السنوات الماضية وليس مقتصرًا على الوقت الراهن فحسب، وهو ما برز في طبيعة العلاقات الكينية مع محيطها الإقليمي التي اتسمت بالتباين.

فعلى صعيد العلاقات الكينية-الأوغندية، ساد التنافس التجاري بين البلدين طوال فترة ولاية الرئيس السابق كينياتا، كما أن التقارب بين الرئيس الحالي ويليام روتو مع بعض الأطراف السياسية الأوغندية خلال السنوات الماضية كان مصدرًا للتوتر الدبلوماسي بين البلدين. كما شهدت العلاقات الكينية-الصومالية توترات خلال السنوات الثلاث الأخيرة بسبب الخلاف البحري المتصاعد بين الطرفين؛ ما أدى إلى إعلان الصومال قطع العلاقات الدبلوماسية مع كينيا في ديسمبر 2020 قبل استئناف العلاقات بواسطة قطرية بعد ستة أشهر.

فيما اتسمت العلاقات الكينية-التنزانية بالتوتر في كثير من الأحيان خلال فترة كينياتا، برغم تحسن العلاقات التجارية بينهما، حيث تعد تنزانيا ثاني أكبر شريك تجاري لكينيا بعد أوغندا. إلا أن العلاقات قد بدأت في التحسن مع صعود الرئيسين ويليام روتو وسامية حسن في البلدين.

بينما وُصفت العلاقات الكينية-الإثيوبية بالمثالية خلال العقد الماضي، وهو ما تُرجم إلى مكاسب اقتصادية للطرفين ومن أبرزها دخول شركة سفاريكوم Safaricom التي تعد أكبر شركة اتصالات كينية إلى السوق الإثيوبية. كما تحسنت العلاقات بين كينيا والكونغو الديمقراطية خلال الفترة الأخيرة بعدما لعب الرئيس السابق كينياتا دورًا بارزًا في انضمام الكونغو الديمقراطية كعضو سابع في مجموعة شرق أفريقيا، وما ترتب عليه من فتح آفاق رحبة للتعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين[35].

وقد عززت سياسة كينياتا خلال ولايته الرئاسية الثانية التي اتسمت بدرجة من العدوانية تجاه محيطه الإقليمي تنامي درجة المقاومة لدى دول المنطقة تجاه كينيا التي بات يُنظر إليها على أنها “دولة تريد السيطرة والهيمنة على كل شيء” مما أكسبها معارضة -ولو بشكل نسبي- فيما يتعلق بتحركاتها في محيطها الإقليمي، وهو ما برز في امتناع دول أوغندا وبوروندي وجيبوتي وتنزانيا عن التصويت لصالح كينيا لنيل منصب رئاسة مفوضية الاتحاد الأفريقي خلال السنوات الأخيرة[36].

في سياق متصل، تواجه كينيا تنافسًا إقليميًّا على الموانئ البحرية من بعض دول المنطقة مثل تنزانيا وموزمبيق إلى جانب إقليم أرض الصومال -الذي أعلن انفصاله من طرف واحد عن الصومال في عام 1991 ولم ينل الاعتراف الدولي حتى الآن- ما دفع كينيا للاستثمار بكثافة في توسيع وإعادة تأهيل وتطوير موانئها البحرية لا سيما مينائي مومباسا ولامو -اللذين قد يصبحا المنافس الإقليمي الأكثر جاهزية- لتصبح كينيا البوابة التجارية الأكثر تفضيلاً في شرق أفريقيا، لا سيما أن دول المنطقة قد بدأت بالفعل في تطوير بنيتها التحتية وموانئها البحرية لتعزيز التنافس الإقليمي خلال السنوات المقبلة[37].

وتستمر المساعي الإقليمية من جانب بعض الدول مثل أوغندا ورواندا لتحجيم النفوذ الكيني في المنطقة. فقد أعلنت رواندا في عام 2016 أنها ستنضم إلى أوغندا لتطوير بوابة جديدة للموانئ التنزانية في محاولة لتعطيل ميناء مومباسا، وذلك عقب إعلان أوغندا أن أحد خطوط أنابيب النفط سيمر عبر تنزانيا وليس كينيا، مما دفع البعض للاعتقاد بأنها استراتيجية إقليمية لعزل كينيا في المنطقة، وهو ما يعكس البيئة الإقليمية التنافسية في منطقة البحيرات العظمى[38].

فيما تسعى رواندا إلى تحقيق طفرة تنموية تؤهلها للتحول لدولة متوسطة الدخل بحلول عام 2035، مما يمكنها من أن تصبح مركزًا ماليًّا إقليميًّا لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، وهي في نفس الوقت تعمل على تعزيز حضورها ونفوذها الإقليمي في شرق أفريقيا من خلال تفعيل الدبلوماسية العسكرية في أفريقيا بهدف حماية مصالحها الاستراتيجية على نطاق واسع ولمدى زمني بعيد هناك. كما تعزز تنزانيا محاولاتها لاستغلال الأزمة الدولية الراهنة وحاجة معظم دول أوروبا للنفط والغاز الطبيعي الأفريقي عبر تقديم نفسها كأحد موردي الطاقة للدول الأوروبية، أملًا في تعزيز مكانتها على الصعيدين الأفريقي والدولي خلال الفترة المقبلة.

وفي نفس الوقت، يبدو أن إثيوبيا لن تراوح مكانتها الإقليمية في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي بسهولة برغم ما تواجهه من تحديات على الصعيد الداخلي خلال الوقت الراهن، إلا أنها ستسعى إلى استعادة دورها مجددًا ربما بدعم دولي لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية خاصة في ضوء ملامح التقارب المحتمل بين الجانبين الذي عززته عدة مؤشرات خلال الفترة الأخيرة من أبرزها مشاركة آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، في أعمال القمة الأمريكية-الأفريقية ولقائه بالرئيس الأمريكي جو بايدن في ديسمبر 2022، وهو ما قد يعزز التنافس الكيني الإثيوبي في شرق أفريقيا خلال المرحلة المقبلة.

مستقبل الدور الكيني في شرق أفريقيا
تبدو الفرصة سانحة أمام كينيا للاضطلاع بدور إقليمي أكثر نشاطًا في شرق أفريقيا، فهي القوة الأكثر جاهزية بالمنطقة، خاصة في ضوء ضبابية المشهد الإقليمي وتعقيد السياق العام هناك. فليس من الواضح إن كانت إثيوبيا قادرة على ترتيب أوضاعها الداخلية لتستعيد أوراقها الإقليمية المتناثرة بعد تجربة الحرب الأخيرة التي مرت بها وكادت تعصف بوحدتها، ولا يزال الموقف ملتبسًا هناك في ضوء هشاشة الاتفاق المبرم مؤخرًا في بريتوريا. في المقابل، تتمتع كينيا بحالة من الاستقرار السياسي النسبي عقب تجاوز اختبار الانتخابات الرئاسية الأخيرة بنجاح وما تلاها من سلاسة في عملية الانتقال السلمي للسلطة، بالإضافة إلى توافر المقومات التي قد تؤهلها للمساهمة في تشكيل مستقبل المنطقة شريطة توافر الإرادة السياسية للقيادة الجديدة، وتصورها لإمكانية لعب كينيا لدور إقليمي محتمل مدعوم باستراتيجية واضحة تمنحه ثقة المجتمع الدولي -لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية- لبدء القيام بمهامه في شرق أفريقيا، وفي نفس الوقت تراعي المخاوف لدى بعض دول المنطقة من آثار صعود الدور الكيني في الإقليم، وهو ما قد ينهي الهيمنة الإثيوبية في المنطقة التي استمرت طوال العقدين الماضيين.

وإجمالًا، تمتلك كينيا بالفعل دبلوماسية قائدة تمكّنها من تعزيز طموحها للعب دور إقليمي محوري في شرق أفريقيا. وربما يُمكْنها تحقيق ذلك من خلال بوابتي جماعة شرق أفريقيا EAC والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية IGAD، مع توافر الدعم الدولي وخاصة من القوى الرئيسية الفاعلة في الإقليم مثل الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى إمكانية توسيع العلاقات مع بعض القوى الإقليمية الأفريقية البارزة مثل مصر ونيجيريا وجنوب أفريقيا بهدف تسهيل تنفيذ أجندتها في الاتحاد الأفريقي عقب تولي رئاستها خلال العام الجاري، وتعزيز التنسيق في القضايا الأفريقية المختلفة، وهو ما قد يسهم في استعادة كينيا لمركزها القيادي في شرق أفريقيا مع الحفاظ على العلاقات مع محيطها الإقليمي لا سيما إثيوبيا.

[1]. Joe; O. Otieno, Regional Anchor State: How Kenya Can Bolster its Role, International Institute for Strategic Studies, 7 September 2021, available at: https://bit.ly/3Ytv5ic

[2]. Wilfred Nasong’o Muliro, Uhuru Kenyatta failed to turn Kenya into as big an international player as he could – here’s why?, The Conversation, 23 September 2022, available at: https://bit.ly/3CnM4cn

[3]. Kenya is US’s Africa policy anchor, Synergia Foundation, 14 December 2018, available at: https://bit.ly/3juqCLQ

[4]. Umberto Tavolato, Kenya on the Security Council: An opportunity for peace and multilateralism, European Council on foreign Relations, 13 January 2021, available at: https://bit.ly/3FUhwRo

[5]. Country Info: Kenya. Economic Background, African Growth and Opportunity Act, 2021, available at: https://bit.ly/3jbbMde

[6]. Melissa Ho, Kenya: The Key Economic Hub in East Africa, 16 December 2019, available at: https://bit.ly/3WpyqNB

[7]. Mwangi S. Kimenyi and Josephine Kibe, Africa’s Powerhouse, Brookongs, 6 January 2014, available at: https://brook.gs/3FxwH1B

[8]. Kenya’s Economic Recovery Remains Strong, Although Slowed by Drought and Inflation, The World Bank, 8 December 2022, available at: https://bit.ly/3GpHwmE

[9]. Joe; O. Otieno, Op.cit.

[10]. Spain and Kenya deepen bilateral relations and extend trade cooperation, La Moncloa, 26 October 2022, available at: https://bit.ly/3FDjtAv

[11]. Umberto Tavolato, Op.cit.

[12]. Michelle Gavin, Kenya Will Play a Vital Role in Addressing Multiple Security Challenges, Council on Foreign Relations, 26 March 2021, available at: https://on.cfr.org/3C2csbg

[13]. Kenya’s Roles and Priority Objectives at the United Nations Security Council for 2021-2022, Kippra, 4 June 2021, available at: https://bit.ly/3BHm1w6

[14]. Vincent Owino, US lauds Kenya for role in truce between Ethiopia, Tigray rebels, The East African, 4 November 2022, available at: https://bit.ly/3hvKGwZ

[15]. Joe; O. Otieno, Op.cit.

[16]. Joe; O. Otieno, Op.cit.

[17]. Kenya’s Roles and Priority Objectives at the United Nations Security Council for 2021-2022, Op.cit.

[18]. Wilfred Nasong’o Muliro, Op.cit.

[19]. Gabriele Manca, The role of Kenya in the maritime silk road, Geopolitica.info, 2 September 2022, available at: https://bit.ly/3uVeaXY

[20]. Melissa Ho, Op.cit.

[21]. Melissa Ho, Op.cit.

[22]. Joël Té-Léssia Assoko, Mwangi Maina, Yara Rizk, DRC: Why Kenya is so keen on Kinshasa joining the East African Community?, The Africa Report, 24 February 2022, available at: https://bit.ly/3FQUKsp

[23]. Kingori Choto, DRC Reveals Security and Trade as Drivers of Kenya’s Strategic Goals, Capital News, 6 December 2022, available at: https://bit.ly/3Vn1jIY

[24]. More regional competition is exactly what Kenya needs, Trade Mark East Africa, 24 May 2016, available at: https://bit.ly/3VqqnyR

[25]. Joe; O. Otieno, Op.cit.

[26]. Country Info: Kenya.. Economic Background, Op.cit.

[27]. Kenya’s Roles and Priority Objectives at the United Nations Security Council for 2021-2022, Op.cit.

[28]. Kenya pledges active role to advance peace, security in Africa, Xinhua, 2 November 2021, available at: https://bit.ly/3BGPiXO

[29]. Kingori Choto, Op.cit.

[30]. Michelle Gavin, Op.cit.

[31]. Gabriele Manca, Op.cit.

[32]. Nicodemus Minde, Change of guard in Kenya: the 5 reasons neighbours watch every step, 31 July 2022, available at: https://bit.ly/3WvgjpO

[33]. Kenya, the leader of eastern Africa, Perspectives, 20 September 2017, available at: https://bit.ly/3UYFUpq

[34]. Kenya’s Roles and Priority Objectives at the United Nations Security Council for 2021-2022, Op.cit.

[35]. Donald Mogeni, Why the Elections in Kenya Matter for the East African Community?, Italian Institute for International Political Studies, 8 August 2022, available at: https://bit.ly/3YyKopB

[36]. Wilfred Nasong’o Muliro, Op.cit.

[37]. Competition amongst East African ports heats up, The Nation, Kenya, 29 July 2022, available at: https://bit.ly/3Wm8imY

[38]. More regional competition is exactly what Kenya needs, Op.cit.

أحمد عسكر
باحث مشارك – مركز الأهرام للدراسات السياسية

المصدر/ مركز الأهرام للدراسات السياسية

Written by admin
×