“في سباق الانتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة الأميركية، قد لا يمكننا الجزم بنتائجها، أو معرفة من سينجح من بين المرشحين، لكن يمكننا رسم بعض ملامح حملاتهم الانتخابية بالتأكيد، حيث سنجدهم يختلفون حول بعض المسائل الداخلية، مثل الرعاية الصحية، الإجهاض، زواج مثليي الجنس، الضرائب، التربية، الهجرة.. وقد تُثار بينهم نقاشات حادة حول السياسات الخارجية لأمريكا، مثل قضية غزو العراق، والتعامل مع الطموحات النووية الإيرانية، والعداء الروسي لحلف شمال الأطلسي، والقوة المتصاعدة للصين؛ وربما سيختلفون كذلك في كيفية التعاطي مع الانحباس الحراري العالمي ومحاربة الإرهاب، وغيرها الكثير والكثير.
إلا أنه يجب أن نكون واثقين من أنهم جميعا سيتكلمون بصوت واحد حول موضوع واحد، وهو التزامهم الشخصي والعميق بدولة أجنبية واحدة، هي إسرائيل، بالإضافة إلى تصميمهم على الحفاظ على الدعم الأميركي اللامشروط للدولة اليهودية. ولن يُتوقع أبدا أن ينتقد أي من هؤلاء المرشحين إسرائيل بأي طريقة كانت، أو يوحي بأنه على الولايات المتحدة اتباع سياسات أكثر توازناً، لأن من يفعل ذلك منهم فسوف ينتهي على الأرجح مرمياً على قارعة الطريق”.
ما قرأتَه الآن، هو ما كتبه البروفيسور “ستيفن والت”، العميد السابق لكلية (جون أوف كينيدي) في جامعة هارفرد، بالتعاون مع البروفيسور “جون ميرشايمر”، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، وذلك في مقدمة كتابيهما “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية”، الذي صدر عام 2007م، وبدأ أولا كدراسة نشرتها مجلة “مراجعات لندن” في مارس/ آذار عام 2006.
والكتاب أحدث ضجة عالمية، وشُنت ضده حرب ضارية تقودها مجموعات الدعم الإسرائيلية في الولايات المتحدة، انتهت باستقالة مؤلفَيه من مناصبهما الجامعية، مع حظر الجامعات الأمريكية من عقد ندوات نقاشية خاصة بالكتاب، أو تغطيته إعلاميا، بالإضافة إلى الهجوم الحاد والمؤلم، الذي طال العالمَين البارزَين “والت” و”ميرشايمر”، وكَيْل الاتهامات لهما، والطعن في مكانتهما العلمية، والتشكيك في ما أورداه من معلومات وحقائق في الكتاب.
ويقول الباحثان إنهما أرادا بهذه الدراسة الدفاع عن المصالح الأمريكية، التي تضررت كثيرا من الدعم اللامحدود، الذي تقدمه الإدارة الأمريكية للسياسة الإسرائيلية في الشرق الأوسط، والذي يدفع في بعض الأوقات إلى خوض الحروب نيابة عن الكيان؛ حيث يدللان على تلك السطوة الإسرائيلية على القرار الأمريكي بما حدث في الكونجرس الأمريكي عام 2002، حين صوت أكثر من 85% من أعضائه لصالح قرار غزو العراق، مقابل رفض 15% فقط؛ وفي النتيجة خرجت أمريكا من تلك الحرب بخسائر فادحة تجاوزت 300 مليار دولار، وسقط آلاف القتلى والجرحى في صفوف جنودها، كما عقّدت الحرب السياسات في الشرق الأوسط، وأضرت كثيرا بسمعة أمريكا عالميا، وخلقت لها الأعداء، بينما ربحت إسرائيل منها زوال عدو قوي لها في المنطقة، واستفادت كذلك في تشييد أنبوب نفط ساهم في خفض فاتورة الكهرباء بنسبة 25 في المائة، وكأن أمريكا قد خاضت الحرب نيابة عن إسرائيل”.
ويطرح مؤلفا الكتاب سؤالا هاما، وهو: إذا لم تكن المصالح الاستراتيجية أو الحجج العقلانية والأخلاقية هي المسؤولة عن دعم أمريكا لإسرائيل، فكيف يمكننا التفسير؟! ويخلصان إلى أن هذا الدعم اللامشروط نابع من قوة اللوبي الصهيوني، الذي يتحكم بالسياسات الأمريكية، ويهيمن على مؤسسات الفكر والثقافة والإعلام.
وفي دراسة بعنوان “اللوبي الصهيوني الأمريكي، وأثره على دول المشرق العربي 1945- 1976م”، للباحثة “نبوية أحمد عبد الحافظ”؛ إشارة إلى أن اللوبي الصهيوني ليس كتلة متراصة واحدة، بل هو أخطبوط متشعب الأذرع، أهدافه المعلنة هي تشجيع الإدارة الأمريكية والشعب الأمريكي على توفير مساعدات مادية وعسكرية وسياسية لإسرائيل، ويستمد الدعم من مجموعات وأفراد لديهم التزام تجاه إسرائيل، ويتكون من اليهود وغير اليهود.
وهنا توضح الكاتبة في دراستها، أن التيار المسيحي الداعم لإسرائيل في أمريكا يسعى لتحقيق المشروع الصهيوني، وفرضه على العالم؛ حيث يؤمن المسيحيون الإنجيليون بأن عودة اليهود إلى فلسطين، وهدمهم للأقصى، وبنائهم للهيكل المزعوم.. ذلك سيساهم في تحقيق النبوءات التوراتية المتعلقة بنهاية الزمان، وعودة المسيح ليحكم الأرض من مقره في مدينة القدس. وتضيف القول إن هناك ما يقرب من ثلاثمائة وخمسين منظمة مرتبطة بالحركة الصهيونية أو موالية لها، وإحداها – مثلا- منظمة إيباك، وهي ثاني أقوى المنظمات العاملة في أمريكا، وأشدها تأثيرا على صناع القرار. ويضم اللوبي الصهيوني في صفوفه أفراداً وشخصيات وحركات، بالإضافة إلى مراكز فكر وأبحاث، كالمؤسسة اليهودية لشؤون الأمن القومي، ومنتدى الشرق الأوسط، ومعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.. ويسيطر اللوبي على إدارات العديد من الجامعات.
وتضيف الكاتبة: لقد تمكنت المنظمة الصهيونية من اختراق جامعة هارفارد، التي تأسست عام 1636م، إذ كانت اللغة العبرية من ضمن المواد التي تُدرس فيها، ومن بين الشروط الأساسية لتعيين أساتذتها القدرة على ترجمة العهد القديم من العبرية إلى الإنجليزية؛ واشترطت جامعة كولومبيا في أساتذتها إتقان اللغة العبرية، وكان أول رئيس لهذه الجامعة يهودياً يدعى “صموئيل جونسون”.. ووضعت منظمات يهودية كإيباك، واللجنة الأمريكية اليهودية، برامج وسياسات خاصة لتدريب الكوادر الصهيونية، لمجابهة انتقاد إسرائيل في المعاهد العليا والجامعات.
أما عن السيطرة الصهيونية على الإعلام الأمريكي، فقد بينت الكاتبة أن الرأسمال الصهيوني ركز على شراء الكمية الأكبر من أسهم الصحف والمجلات ودور النشر، ومحطات الإذاعة والتلفزيون وشركات الأفلام السينمائية والوثائقية، لإتاحة الفرصة لعناصره العاملين في الحقل الإعلامي، للتأثير في كُتّاب المقالات الافتتاحية أو التحليلية الحيوية، عبر رئاستهم للغرف الخلفية في تلك المؤسسات.
والمتابع للأحداث المشتعلة في منطقتنا، والحرب الوحشية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي، بدعم أمريكي لا محدود، يتيقن من قوة ذلك اللوبي الصهيوني وتحكمه المطلق في السياسات الأمريكية.. لكنه كذلك سيلاحظ أن الهيمنة الصهيونية على الرأي العام العالمي لم تعد كسابقتها، وأن الحراك المؤيد لوقف الحرب على غزة، والتظاهرات التي رأيناها تملأ الشوارع في كثير من المدن والعواصم الأوروبية والأمريكية، وفي مناطق عدة من العالم، إنما هي نتاج نمو وازدهار تيار إعلامي جديد، تحرر من القيود الصهيونية من خلال اعتماده بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، والفضاء الرحب لشبكة الإنترنت، ونقلها للأحداث لحظة بلحظة، وتداولها بين المستخدمين.
وكما شاء الله – جَلّ في علاه- أن يكون طوفان الأقصى، والصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية ولأهل غزة أمام آلة الحرب الوحشية، سببا في إحداث تغيير يزعزع السردية الصهيونية عالميا، ويقلب معادلات الهيمنة الإسرائيلية على الإعلام العالمي، فقد هيأ كذلك الأسباب لانتفاضة طلابية، تشتعل شرارتها من أمريكا، وتحديدا في جامعة كولومبيا، نتيجة قرار مستبد وأحمق من رئيستها مصرية الأصل، نعمت شفيق، حين أمرت بقمع الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، واستدعاء شرطة نيويورك لإخلاء خيام أقامها المحتجون.
فقد اعتقلت الشرطة أكثر من 100 طالب، كما جرى إيقاف عشرات الطلاب المشاركين في الاحتجاجات عن الدراسة مؤقتاً، وهو الأمر الذي أجج الغضب، ونقل العدوى إلى جامعات أخرى، فصعّد الطلاب من احتجاجاتهم، وأصروا على مطالبهم. وكانت الهيئة الطلابية في جامعة كولومبيا، أقرت بأغلبية ساحقة استفتاءً يطالب الجامعة بسحب استثماراتها من إسرائيل، وإلغاء افتتاح مركز “تل أبيب” العالمي، وإنهاء برنامج الشهادات المزدوجة بجامعة تل أبيب.
واتسعت رقعة التظاهرات الطلابية لتشمل جامعات أخرى عريقة ومرموقة، بما في ذلك هارفارد وميتشيجين، وجامعات ييل ونورث كارولينا، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.. حيث ثار الطلاب، ومعهم أساتذة جامعيون وشخصيات أكاديمية وازنة، نزلوا إلى الساحات لدعم طلابهم، وأقاموا سلاسل بشرية لحمايتهم من الشرطة، وقد تجلى في المشهد بركان طلابي لم تشهده أمريكا منذ ستينيات القرن الماضي، أثناء الاحتجاجات الشعبية على حرب فيتنام.
فهل نحن اليوم أمام ربيع أمريكي من نوع خاص، ينتفض على الاحتلال الصهيوني للإدارة الأمريكية، والسيطرة الإسرائيلية على الإعلام والثقافة والفن ومراكز صناعة القرار؟! كأنه كذلك..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
بواسطة شيرين
25 أبريل 2024م