في الصومال اليوم، لم تعد الشهادات الأكاديمية، ولا الخبرة العملية، ولا الاطلاع الواسع شروطًا ضرورية لتصبح خبيرًا استراتيجيًا، أو محللًا سياسيًا، أو مستشارًا اقتصاديًا. يكفيك مقعدٌ بلاستيكي، وكوبٌ من الشاي، وبعض الحماسة في النقاش، لتُمنح عضوية دائمة في “مجلس المقاهي العليا”؛ تلك المؤسسة غير الرسمية التي تدير شؤون الدولة من تحت ظلال الأشجار وعلى الطاولات البسيطة المهترئة.
في هذا المجلس، يجلس رجل لم يمارس يومًا وظيفة منتظمة، ولم يقرأ صحيفة قطّ، إلا ما يطالع من عناوين المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل “فيسبوك” و”يوتيوب”. ومع ذلك، يحدثك بثقة مطلقة عن تقلبات السوق، وأسباب انهيار العملة، ومآلات الاقتصاد العالمي. ثم ينتقل بسلاسة إلى تحليل الموقف العسكري في أوروبا، ويشرح مجريات المعارك وكأنه كان حاضرًا في غرفة العمليات التابعة لحلف الناتو، قبل أن ينتقل أخيرًا إلى أخبار الرياضة.
وبالقرب منه، يجلس “الخبير السياسي”، وهو شخص يُعرف في الحي بلقب “الدكتور”، رغم أنه لم يطأ فصلًا دراسيًا في حياته قط. يناقش تشكيل الحكومة، ويتحدث بثقة عن نوايا الرئاسة، ويقترح تعديلات على الدستور بأسلوب العارف الخبير، أما مصادره، فهي أقوال يُنسب بعضها إلى قريب يعمل في إحدى المؤسسات، وبعضها الآخر إلى ما “سمعه من فلان في فيس بوك او يوتيوب”. وكلها، في نظره، تفوق في مصداقيتها تقارير الوكالات الدولية.
وإذا تجرأ أحدهم على الإشارة إلى أن التحليل الرصين يتطلب بيانات دقيقة، ومناهج علمية، ومصادر موثوقة، قابله بنظرة حادة قائلاً: “نحن نعرف البلد جيدًا، وقد عايشنا كل مراحله، فلا حاجة لنا بالمصادر والنظريات”.
في مجلس المقاهي العليا، لا أحد يعترف بالجهل، فالجميع عالمون، والجميع متخصصون، والجميع يملكون الحلول الجاهزة لمشكلات الدولة والعالم، فأما من يتواضع في علمه، أو يعترف بعدم معرفته بأمر ما، فهو بنظرهم متخاذل، أو متغافل عما يحدث حوله.
ختامًا، تظل هذه المجالس مرآة ساخرة لحالة الوعي العام، وقد يكون في بعضها تسلية ومسامرة، غير أن الاكتفاء بالكلام لا يغني عن العمل، والخبرة الحقيقية لا تُكتسب من مجالس الشاي، بل من مجالس العلم ومواقع العمل.
عبد الشكور قوريري سهل
كاتب صومالي