مارس 19, 2025

الأستاذ/ عبدالشكور قوريري سهل: لقد ظلمنا هذا القائد

عبر صفحات التاريخ، تتجلى قصص البطولات والتضحيات، لكن ليس كل الأبطال نالوا حقهم من التقدير والإنصاف. ومن بين هؤلاء، يبرز اسم السيد محمد عبد الله حسن، القائد الصومالي الذي قاد واحدة من أطول حركات المقاومة ضد الاستعمار في القرن العشرين. رغم شجاعته وتفانيه في الدفاع عن أرضه ودينه ضد القوى الاستعمارية البريطانية والإيطالية والإثيوبية، لم ينل هذا القائد العظيم التقدير الذي يليق بدوره البطولي، ولم يُعطَ حقه الكامل في الذاكرة الوطنية أو التقدير الكافي من الأجيال اللاحقة.

لقد تعرض هذا القائد العظيم للتشويه والتجاهل في العديد من المصادر، حيث صُوِّر أحيانًا على أنه متمرد، بينما كان في الواقع رمزًا للصمود والاستقلال. واليوم، بعد أكثر من قرن على نضاله، لا يزال من الضروري إعادة قراءة تاريخه وإنصافه، ليس فقط كشخصية وطنية صومالية، بل كمقاوم عالمي وقف في وجه الإمبراطوريات الكبرى بإيمان لا يتزعزع بحقه وحق شعبه.

في هذا المقال، نسلط الضوء على تاريخ ونشأة السيد محمد عبد الله حسن، والظلم التاريخي والإهمال الذي تعرض له، كما نتناول دوره المحوري في المقاومة الصومالية، وإنجازاته وتضحياته، وأشهر المعارك التي خاضها ضد الاحتلال، والدروس التي يجب أن نتعلمها كصوماليين.

من هو السيد محمد عبد الله حسن؟

وُلد السيد محمد عبد الله حسن عام 1864م في منطقة نغال، بالقرب من مدينة بوهودلي شمال شرق الصومال، في إقليم توغطير بالشمال الصومالي. نشأ في كنف أسرته وتحت رعاية والده، وبين أخواله الذين اشتهروا بالشجاعة والفروسية وبراعتهم في الشعر والأدب. كان شغوفًا بالرماية ومحبًّا للفروسية، ومولعًا بقصص الأبطال وتاريخ المجاهدين العظام. منذ صغره، أظهر قدرة كبيرة على التحمّل في الألعاب والمنافسات الطفولية، كما بدت عليه علامات القيادة في سن مبكرة. وخلال فترة مراهقته، التي تعكس عبقرية الفرد وذكاءه، أطلق عليه الصوماليون لقب “غبيسني” (Gobeysane) أو “الشهم”، إشارة إلى رخاء العيش والاستقرار الذي كان يسود الصومال آنذاك.

تضحياته وإنجازاته

أسّس الشيخ محمد عبد الله حسن دولة الدراويش، التي واجهت الاحتلال الغربي وأعوانه، بهدف توحيد القبائل الصومالية تحت راية الإسلام والوطن. نجح في بناء قوة عسكرية متماسكة تصدّت للاستعمار البريطاني، والإيطالي، والإثيوبي لأكثر من عشرين عامًا. سعى إلى توعية الشعب في جميع أنحاء البلاد من خلال رسائله وخطبه، إضافة إلى أشعاره الحماسية، التي تناقلتها الأجيال وحفظها الصوماليون حتى اليوم.

دعا الصوماليين إلى الجهاد ضد الاستعمار ونبذ الخضوع والاستكانة. وبعد معارك شرسة ضد القوى الاستعمارية، ألحق جيش الدراويش هزائم متتالية بالمستعمرين الأوروبيين والأفارقة، مما جعل المقاومة الدراويشية واحدة من أقوى الحركات التحررية في المنطقة. وقد أدى نضاله إلى الحفاظ على استقلالية المناطق التي سيطرت عليها الدراويش لفترة طويلة، رغم الحصار والضغوط الخارجية.

 

أشهر المعارك الحربية

خاض محمد عبد الله حسن وأتباعه عدة معارك حربية ضد قوات الاستعمار، ومن أشهرها الوقائع التالية:

غزوة بهر طيغ (حوض الدم)

في أبريل 1901، أصدرت الحكومة البريطانية أمرًا إلى الكابتن سواين بقيادة جيش من قاعدة بربرة إلى مدينة أفبكيلي، حيث وردت تقارير تفيد بأن محمد عبد الله حسن قد جمع قوات الدراويش هناك، استعدادًا للتغلغل داخل ثكنات الجيش البريطاني في بربرة والاستيلاء على أسلحة وصلت حديثًا إلى الميناء.

تحرك الكابتن سواين بجنوده نحو الداخل، لكن محمد حسن كان على علم بتحركات الجيش البريطاني، فانسحب مع جنوده ليلاً من مدينة أفبكيلي. وعندما وصلت القوات البريطانية إلى المدينة، التي كانت توصف بأنها محصنة للغاية، لم يجدوا بها أحدًا. وفي صباح الثالث من مايو، باغتهم محمد حسن برجاله، حيث خاض أول معركة يقود فيها جيشًا منظمًا. انتهت المعركة بانتصار كبير للصوماليين، بينما تكبد البريطانيون خسائر فادحة.

وتخليدًا لهذا الانتصار، أُطلق على هذه المعركة اسم “معركة بهر طيغ” أو “حوض الدم”، وذلك لكثرة الدماء البريطانية التي غمرت أرض المدينة.

غزوة قرطدن

لم يَمضِ شهرٌ على معركة “بَهر طيغ” حتى وَصَلت الأنباء إلى معسكرات المسلمين قرب منطقة “لاس عانو” مفادُها أن البريطانيين شنّوا حملةً عسكريةً جديدةً بجيشٍ أضخمَ هذه المرة، تحت قيادة الكابتن “سواين”، بهدف الانتقام من محمد عبد الله حسن ورجاله؛ بعدما ألحقوا بالبريطانيين خسائرَ فادحةً في هجومٍ مُباغتٍ صباحَ الثالث من مايو/أيار عام 1901.

وعندما علم محمد عبد الله حسن بتحرُّك الحملة، نادى في جنوده: «الكفارُ يُريدون أن يَثأروا لِما أَصباهم مِن دمارٍ على أيدينا! فإلى الجهاد يا رجالَ الإسلامِ، لِنُذيقَهم هزيمةً أقسى!». والتقى جيشُه مع القوات البريطانية شرقَ “لاس عانو” على بُعد خمسين ميلاً، في منطقةٍ تُعرف بـ”قَرطَدن”. وفي السادس عشر من يوليو/تموز عام 1901، حقَّق المسلمون انتصاراً ساحقاً في تلك المعركة الفاصلة.

غزوة بيرطقة (شمال جالكعيو) – 19 أكتوبر 1902

في عام 1902، كان السيد محمد ورجاله في منطقة مدق طلبًا للراحة والاستعداد لغزوات واسعة النطاق، وانتظارًا للأسلحة التي وعد سلاطين الماجرتين بتقديمها للدراويش الصوماليين، مساهمةً منهم في جهادهم ضد الطليان والإنجليز والأحباش.

علمت المخابرات البريطانية بمواقع القوات الصومالية بقيادة السيد محمد، فأصدرت السلطات البريطانية على ساحل الصومال أمرًا بتعبئة جيش جرار لمداهمة الصوماليين في ناحية مدق (داخل نطاق الصومال الإيطالي)، وذلك بالاتفاق مع إيطاليا على السماح للقوات البريطانية بمطاردة السيد محمد ورجاله حتى داخل أراضي المحمية الإيطالية.

وبحكم حرصه على مصالح وطنه، أرسل السيد محمد رسله إلى نواحٍ مختلفة بعيدة عن معسكرات الصوماليين للتجسس على تحركات الأعداء. وجاءه رسول يخبره بأن جيشًا بريطانيًا في طريقه إلى مدق، فاستعد السيد محمد ورجاله للدفاع والمقاومة. والتقى الجيشان في بيرطقة، فحقق الدراويش النصر، إلى جانب ما غنموه من أسلحة حديثة وافرة كانت بحوزة العدو.

إهمال التاريخ لحقه

ورغم هذه الإنجازات، وقيادته لحركة مقاومة قوية ضد الاستعمار البريطاني والإيطالي والفرنسي والحبشي في الصومال، وتفانيه في حماية القيم الدينية والثقافية لشعبه، نجد أن السيد محمد عبد الله حسن لم ينل التقدير الذي يستحقه في كتب التاريخ الصومالية الحديثة، بل تعرض تاريخه للتجاهل والتشويه في كثير من الروايات التاريخية.

فلم يُنفَ دوره البطولي فحسب، بل طُمست أيضًا معالم حقبة مهمة من النضال الأفريقي ضد الاستعمار. وقد سعى البعض إلى تشويه صورته بوصفه “مجنونًا” و”متمردًا”، وهذا الإهمال يمثل ظلمًا كبيرًا لشخصية قدمت الكثير في سبيل الحرية والكرامة الوطنية. ورغم مرور أكثر من قرن على وفاته، لم تُقم مشاريع كبرى تخليدًا لاسمه، مثل متاحف أو مراكز ثقافية تبرز دوره الوطني، كما لم تُدرج سيرته بشكل كافٍ في المناهج الدراسية لتكون مصدر إلهام للأجيال القادمة. ولم تُبذل جهود كافية لتصحيح هذه الصورة المغلوطة.
وإن إنصاف هذا التاريخ واجب وطني وإنساني، يساهم في ترسيخ الهوية الوطنية واستلهام الأجيال من القيم التي ناضل من أجلها السيد محمد عبد الله حسن.

دروس يجب أن نتعلمها من تاريخه

من تاريخ المجاهد البطل سيد محمد عبدالله الصومالي، يمكننا استخلاص دروس عظيمة تلهمنا اليوم. أولاً، يعلمنا أهمية الوحدة الوطنية، حيث أدرك أن الانقسام بين القبائل يسهل السيطرة الاستعمارية، فعمل على توحيد الشعب تحت راية واحدة. ثانيًا، يبرز درس الإيمان بقوة العزيمة والإرادة، فقد قاد نضاله بشجاعة وثبات رغم قلة الإمكانيات. ثالثًا، يذكرنا بضرورة الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية، حيث جعل القيم الإسلامية جوهر نضاله ضد الهيمنة الأجنبية. وأخيرًا، يعلّمنا أهمية القيادة الحكيمة والمبادرة في مواجهة التحديات، فقد أثبت أن القائد الحقيقي هو الذي يضع مصلحة أمته فوق كل اعتبار، ويضحي من أجلها بكل ما يملك.

ختامًا

إن التاريخ المدفون للقائد السيد محمد عبد الله حسن شهادة حية على نضال الشعوب من أجل الحرية والكرامة. لقد كان رمزًا للصمود والوحدة، وقائدًا استثنائيًا لم يخشَ مواجهة التحديات في سبيل الدفاع عن دينه ووطنه. ورغم محاولات طمس تاريخه وتشويه صورته، يبقى إرثه محفورًا في قلوب الصوماليين، يلهم الأجيال القادمة للنضال من أجل قضاياهم العادلة. إن استعادة هذا التاريخ وإحيائه ليست مجرد واجب وطني، بل هو أمانة تستحق أن تُنقل بأمانة واعتزاز.

عبدالشكور قوريري سهل

كاتب صومالي

Written by admin
×