لطالما اقترنَت الثقافة بالوعي والتنوير، وكان المثقف يُعدّ في المجتمعات منارةً تهدي الأمة نحو الوحدة والتقدّم، غير أن التجربة الصومالية المعاصرة تكشف عن واقع مختلف، بل وصادم أحيانًا، حيث تحوّل بعض المثقفين من أدوات للبناء إلى أدوات للهدم. ففي الوقت الذي كان يُنتظر منهم أن يكونوا جسورًا للتفاهم ومصادر للحلول، أصبح بعضهم، عن قصد أو دون قصد، سببًا في تأجيج الانقسامات وتعميق الخلافات.
فهل أصبح المثقف الصومالي فعلًا جزءًا من المشكلة بدل أن يكون جزءًا من الحل؟ وهل المثقف الصومالي اليوم يخدم مصلحة الوطن، أم أنه مجرد
أداة في خدمة أجندات خارجية؟ يحاول هذا المقال التعمّق في هذا الإشكال الحاد لفهم دور المثقف الصومالي في الأزمة الوطنية الراهنة.
بدلًا من أن يكون المثقف الصومالي صانعًا للوعي ومُسهِمًا في توحيد الصف الوطني، تحوّل بعضهم إلى أدوات تُستخدم من قبل جهات خارجية لتأجيج الخلافات الداخلية، فهم من يدعمون استمرار وجود القوات الأجنبية في البلاد حفاظًا على مناصبهم، ويعمل بعضهم كأبواق إعلامية لدول إقليمية ودولية، يروّجون سياساتها ويدافعون عن مصالحها على حساب مصلحة الصومال.
ولا يتردّد هؤلاء المثقفون في تشويه صورة الوطن أمام المجتمع الدولي، وتبرير التدخّلات الخارجية، ودعم المشاريع الهادفة إلى تقسيم الصومال، سواء عبر الدعوة إلى الانفصال، أو تأجيج الصراعات القبلية، أو الترويج لأفكار تُضعف الدولة المركزية.
بدلًا من تعزيز الوحدة الوطنية، يُسهم بعض المثقفين الصوماليين في إذكاء النزعات القبلية من خلال الإعلام، عبر نشر أفكار تدعم قبائلهم وتُقلّل من شأن القبائل الأخرى. كما يستخدمون إثارة الصراعات القبلية في المنتديات السياسية والمقالات الصحفية، ويوجّهون الشباب نحو الولاءات القبلية بدلًا من الوطنية، وتُعزز هذه الممارسات الانقسامات داخل المجتمع الصومالي، مما يجعل تحقيق المصالحة الوطنية أكثر صعوبة.
كثير من المثقفين الصوماليين لا يتحركون وفق مبادئ ثابتة، بل يسعون وراء مصالحهم الشخصية. فتجد بعضهم يتنقّل بين المعسكرات والتيارات السياسية بحسب ما يحقق لهم مكاسب سياسية أو مالية. يظهرون بمظهر الوطنيين حين تخدمهم الظروف، لكنهم يتحوّلون إلى معاول هدم عندما تتعارض المصلحة الوطنية مع طموحاتهم الشخصية.
لقد جعلت هذه الانتهازية من الصعب الوثوق بالمثقف الصومالي، إذ بات يُنظر إليه كشخص مستعدّ لبيع قناعاته لمن يدفع أكثر، بغضّ النظر عن العواقب التي قد تترتب على مستقبل البلاد. وما نشهده اليوم من شخصيات تدّعي أنها مثقفة أو سياسية، ما هي في الحقيقة إلا أدوات تُحرّكها المصالح، ولا علاقة لها لا بالثقافة ولا بالسياسة.
الحل لا يكمن في محاربة المثقفين عامة، بل في التمييز بين الصادقين والانتهازيين، وتشجيع الفكر النقدي البنّاء الذي يُعزّز وحدة الصومال ويحافظ على استقلال قراره السياسي. ينبغي التركيز على ترسيخ الفكر الوطني، بحيث يكون المثقف حاملًا لمشروع وطني جامع، لا تابعًا لأجندات خارجية أو ولاءات قبلية.
كما يجب رفع مستوى الوعي بمخاطر التدخلات الخارجية، من خلال كشف الأدوات التي تستخدمها القوى الأجنبية لزعزعة استقرار الصومال، وتوضيح دور بعض المثقفين في تنفيذ هذه المخططات. وإلى جانب ذلك، لا بد من محاسبة المثقفين الذين يُروّجون للفتنة، وخلق وعي مجتمعي يرفض الخطاب العنصري والانقسامي، مع تسليط الضوء على دورهم في إضعاف البلاد وتفتيت نسيجها الاجتماعي.
ولمواجهة هذا المثقف الذي يخدم أجندات خارجية على حساب الوطن، لا بد من بروز المثقف الوطني الحقيقي، الذي يضع مصلحة بلاده فوق أي اعتبارات شخصية أو مصالح أجنبية. يجب أن يكون هذا المثقف صوتًا للوعي، يقود حملة توعية شاملة تفضح خطر المثقف المأجور، وتكشف أساليبه في التلاعب بالرأي العام، وإثارة الفتن، وخدمة الجهات التي تسعى إلى تقسيم الصومال وإضعافه. ومن خلال الإعلام الحر، والتعليم، والنقاشات الفكرية، يمكن التصدّي لهذا التيار الهدّام، وتعزيز ثقافة النقد البنّاء التي تُميّز بين المثقف الصادق والمثقف الذي باع ضميره لأجندات خارجية.
وختاما، في خضم التحديات التي تواجه الصومال، يبرز دور المثقف كعنصر محوري في تشكيل الوعي العام وتوجيه الرأي الوطني، لكن عندما يُسخَّر هذا الدور لخدمة المصالح الضيقة، أو يُستخدم كمنبر للتفرقة والتحريض، يتحوّل المثقف من عامل بناء إلى معول هدم، فإن خطر المثقف لا يكمن في علمه أو قدرته على التأثير، بل في كيفية توجيه هذا التأثير. ولهذا، فإن المسؤولية اليوم تقع على عاتق المثقفين الصوماليين لإعادة النظر في أدوارهم، والعمل بضمير وطني يحترم التنوّع ويُعلي من شأن المصلحة الوطنية فوق أي انتماء.
فالوحدة ليست مجرد شعار، بل مشروع وطني يحتاج إلى عقلاء، لا إلى منابر تُغذي الانقسام باسم الفكر أو الحرية.
والمستقبل يتوقف على وعي الشعب بدور المثقفين في الصومال. فهل سنواصل منح الانتهازيين صوتًا أعلى؟ أم أننا بحاجة إلى دعم المثقفين الوطنيين الذين يسعون إلى بناء الصومال لا هدمه؟ القرار بأيدينا.
عبد الشكور قوريري سهل
كاتب صومالى
