أعلنت إثيوبيا عن توقيع إتفاق وصفته بالتاريخي مع إقليم أرض الصومال المعروف بإسم: (صوماليلاند)، يوفّر لها منفذًا بحريًا عبر ميناء “بربرة” الصومالي، وذكرَ مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في بيان رسمي أن الإتفاق “سيفتح الطريق أمام تحقيق تطلعات إثيوبيا إلى تأمين وصولها إلى البحر، وتنويع وصولها إلى الموانئ البحرية، وأن الاتفاق يُعزز أيضًا الشراكة الأمنية والإقتصادية والسياسية للطرفَين”.
وكانت أرض الصومال مستعمرة بريطانية حتى عام 1960. وتمتعت المنطقة بخمسة أيام من الإستقلال قبل أن تتحد طوعيا مع الصومال الجنوبي، وهي مستعمرة إيطالية. لقد كان إتحاداً تأسس قبل النضوج وانتهى بإنفصال أرض الصومال من طرف واحد في عام 1991، بعد صراع من أجل التحرير دام عقداً من الزمن ضد النظام العسكري الذي كان يدعمه السوفييت.
واليوم، فإن أرض الصومال تكاد أن تصبح دولة مستقلة بحكم الأمر الواقع، لأنها تتمتع بعملتها الخاصة وبرلمانها وبعثاتها الدبلوماسية في الخارج.
لم يكتفِ أبي أحمد بهذه الجبهات المفتوحة، وإنما أعلنت حكومته قبل أيام أن إستقلال واستفتاء إريتريا الذي تحررت بموجبهما من تبعية أديس أبابا، كان خطأ تاريخيًا وقانونيًا، وهذا يعني بالضرورة عدم الإعتراف الإثيوبي بسيادة إريتريا، مما يجعل عودة الحرب بين الدولتَين أمرا واردا في أي وقت.
أصبحت إثيوبيا أكبر دولة غير ساحلية في العالم في عام 1993 عندما انفصلت منها إريتريا مع ساحلها على البحر الأحمر. وفي أكتوبر/تشرين الأول، قال أبي إن هذا خطأ تاريخي يهدد وجود إثيوبيا، مما أثار مخاوف من نشوب حرب مع إريتريا. وقال أبي: “في عام 2030، من المتوقع أن يصل عدد سكان بلاده إلى 150 مليون نسمة”. “150 مليون شخص لا يستطيعون العيش في سجن جغرافي.”
فبعد أن أراد أبي أحمد علي أن يكون إمبراطورا وشعر بالعظمة، يريد أن يقاتل في كل الجبهات، على طريقة الإمبراطور هيلاسلاسي، وتعزيز القبضة المركزية بالنهج الدموي الذي سلكه من قبل سلفه منليك الثاني.
ويرى المحللون أن أطماع أبي أحمد هي مجرد بداية المواجهة بين كبرى الدول، وربما تدور هذه المرة فوق الهضبة الأفريقية، وأن المنطقة على موعد مع فوضى شاملة، تضمن للغرب فرصًا أكبر للتدخل ونهب الموارد الإفريقية، وفرض أنظمة دكتاتورية موالية له.
وخاضت إثيوبيا والصومال صراعا في عامي 1977 و1978 على إقليم اوجادين الذي تحتله إثيوبيا وما زالت التوترات عميقة فيه.
واوجادين هي أرض صومالية تحت حكم أديس أبابا.
وغزت إثيوبيا الصومال في عام 2006 لطرد ما كان يُعرف بالمحاكم الإسلامية من مقديشو، مما ساعد على إشعال شرارة تمرد حركة الشباب التي تعاني البلاد من تبعاتها حتى يومنا هذا، واليوم فإن إثيوبيا هي واحدة من المساهمين بقوات في قوات حفظ السلام التابعة للإتحاد الإفريقي في الصومال.
و أبي أحمد صورة طبق الأصل لرجل عازم بقوَّة على تعزيز قبضته الحديدية، وبناء إمبراطورية تهيمن على المنطقة برمّتها، وانتزاع تاج الزعامة الإفريقية بالقوة، فهو الآن، وبعد أن شنّ حربًا ضارية ضد التيغراي، ونكّل بالمعارضين السياسيين، وتحايل على قيام الإنتخابات في العام 2020، وتخلّص من أبرز منافسيه، بات أخيرًا يفكر بشكلٍ جاد في ابتلاع دول الجوار.
أبي أحمد يهدد السلم الإفريقي
خلال الفترة السابقة بدأت إثيوبيا تُهدد الأمن والسلم الإفريقيين، دون أن تخشى تبعات ذلك، فهي تدعم تمرد مليشيا الدعم السريع في السودان، وتستضيف المعارضة السودانية المسلحة، وتسعى للإنقضاض مرة أخرى، على منطقة الفشقة بشرق السودان، التي استعادها الجيش السوداني، في وقتٍ أيضًا يصر فيه رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد على استكمال كافة مراحل بناء سد النهضة، وقام بملء وتشغيل السد، بصورة أحادية، والضرب بمواقف واعتراضات دولتي المعبر والمصب عرض الحائط، ويشكل تهديدًا مباشرًا على مصالح مصر والسودان، وحقوقهما التاريخية في نهر النيل، وكانت تلك خطوة عدائية، لم يُقدِم عليها أي حاكم إثيوبي من قبلُ.
القتال لأجل الموانئ
ولعل دوافع تلك التصريحات أن إثيوبيا تبحث عن منافذ بحرية، بأي ثمن، على اعتبار أنها دولة حبيسة، وفي سبيل ذلك يمكن أن تقوم بغزو دول الجوار، أو تعزيز الانقسامات فيها، لاضعافها ومن ثم يسهل الانقضاض عليها.
وهو ما أقدمت عليه بالفعل عندما أبرمت مذكرة تفاهم وتعاون مع إدارة أرض الصومال – الأقاليم الشمالية من الصومال – وبموجب هذا الإتفاق سوف تحصل إثيوبيا على قاعدة بحرية في الصومال، مقابل أن ينال الإقليم أسهمًا في الخطوط الجوية الإثيوبية، كما ستعترف إثيوبيا بأن إقليم أرض الصومال الانفصالي دولة مستقلة.
وهدا الإتفاق رفضت كل من مصر والسودان، باعتباره تعديًا سافرًا على سيادة الصومال، التي هي بالأساس تحمل عضوية الجامعة العربية، وكان ينبغي أن تكون للدول العربية مواقف موحدة وصارمة تجاه هذا الاعتداء، الذي يعني تعزيز الانقسامات والهيمنة على هذه المنطقة بالقوة، وكبح مطامع أبي أحمد في موارد دول الجوار.
فهو بعد أن اعترته مشاعر العظمة، يريد أن يقاتل في كل الجبهات، على طريقة الإمبراطور هيلاسلاسي، وتعزيز القبضة المركزية بالنهج الدموي الذي سلكه من قبل سلفه منليك الثاني.
رغم أن أطوار تشكُّل شخصية أبي أحمد تختلف عن الطريقة التي ظهر بها حميدتي، فإن وجود رافعة خفية تعمل على تمكينهما من السُلطة، والتنسيق بينهما في مواقف كثيرة لا تخفى على أحد، وتلك الرافعة تحركها مصالح في السودان وإثيوبيا معًا، وتعني أن المقاول الذي يقف خلفهما واحد.
وقد بدأ الغرب في التعامل مع حميدتي من خلال إستخدام قواته في مكافحة الهجرة غير الشرعية، قبل نحو عشر سنوات، وفي سبيل ذلك تم التغاضي عن الانتهاكات التي تقوم بها مليشيا الدعم السريع في دارفور والخرطوم وولاية الجزيرة ومواقع أخرى في السودان، بل يتم دعمه حاليًا بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية، وحمايته من الملاحقات القانونية والمقابلات التي يجريها مع بعض قادة المنطقة جزء من تلك الحماية وإضفاء قدر من الشرعية والقبول العام عليه.
كما تم إجبار الدول الإفريقية التي زارها مؤخرًا على استقباله كأنه رئيس دولة، وتصويره كمنقذ للديمقراطية والثورة السودانية، بينما هو ألد أعداء الثورة والحكم المدني، فضلًا على ذلك فإن خطورة قوات الدعم السريع تكمن في أنها شتات من دول مختلفة، تم تجميعها من تشاد ومالي وليبيا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى النيجر إلخ.
وقد اتهم السودانُ تشاد بأنها فتحت مطاراتها لجلب الأسلحة للمتمردين عبر الحدود الغربية، ووصل الأمر إلى قطيعة دبلوماسية، ما يعني اتساع دائرة العنف، ووجود قوى خفية تريد أن تشعل منطقة غرب إفريقيا والساحل، لتسيطر بعد ذلك على أكبر مخزون من الذهب واليورانيوم.
بالتزامن مع تلك الشرارة بات واضحًا أن إثيوبيا عينها على بترول جنوب السودان، وعلى أراضي الفشقة الخصبة، وموانئ إريتريا والساحل الصومالي، وتستخدم مشروع سد النهضة لخلق فزاعة خارجية لقمع الأصوات الداخلية المناوئة لهذا التوجه، وتهديد مصالح دول عربية، مثل تلويح أبي أحمد من داخل برلمانه بحشد مليون إثيوبي لمواجهة خيار الحرب مع مصر والسودان.
مناورات الصيف الإفريقي
في يوليو/ تموز 2018، وقّع أبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي على إعلان أسمرا للسلام والصداقة، وركّز الإعلان على الجانب الأمني، وترسيم الحدود، وفتح مجالات التعاون الإقتصادية، لكن رئيس الوزراء الإثيوبي نكص على عقبيه، وبات اليوم يلوح بالعودة للحرب مع جارته، ولا يعترف بدولة إسمها إريتريا، وهي بالتأكيد ستكون معركة مصيرية سيخوضها أفورقي أيضًا بثارات قديمة، وسيجد السودان إلى جانبه، مع الاستعانة بالدب الروسي ولن تغيب مصر عن مثل تلك المعركة إذا قُدرَ لها واندلعت..
فقبل أيام وصلت سفينة روسية تحمل 25 ألف طُن من الحبوب إلى ميناء مصوع الإريتري، كهدية من بوتين، في المقابل ستقف أميركا إلى جانب إثيوبيا، وتركيا ومصر والسودان إلى جانب الصومال وإريتريا، ولن تستطيع منظمة الإيغاد ولا الإتحاد الإفريقي المتهالك إطفاء الحريق ولا المكوث في أديس أبابا كمقر له؟
وهذا يعني أن مواجهة بين كبرى الدول ربما تدور هذه المرة فوق الهضبة الإفريقية، وأن المنطقة على موعد مع فوضى شاملة، تضمن للغرب فرصًا أكبر للتدخل ونهب الموارد الإفريقية، وفرض أنظمة دكتاتورية موالية له.
موقف الإرادة الإفريقية؟
إثيوبيا دولة مأزومة اقتصاديًا، وتعاني من صراعات إثنية مزمنة، وطموحات القادة المحليين، ولن يستطيع أبي أحمد أن يخوض تلك الحروب المتعددة وحده، وسيقع في الورطة نفسها التي وقع فيها سلفه ميليس زيناوي، عندما دخل في مواجهة مع السودان من جهة، وإريتريا من جهة أخرى، وتوغل بريًا في داخل الأراضي الصومالية؛ بهدف السيطرة على الموانئ، فرجع مهزومًا.
وهذا يعني أن أبي أحمد علي، المفتون بالهيمنة الأميركية، لم يتعلم من التاريخ، وسينتهي به الحال إلى تجرّع الهزائم، ودفع أثمان غالية؛ نتيجة لهذه الحماقات.
ولا شك أن المنطقة الإفريقية في المستقبل القريب قد تجد نفسها على صفيح ساخن، وتشهد تحولات عميقة، وخارطة تحالفات عسكرية وسياسية جديدة، وستكون إثيوبيا محور هذا الصراع، الذي هو فرصة مواتية لمصر للتدخل بقوّة، وحماية مصالحها، وسيكون ساحل البحر الأحمر والهضبة منطقة ملتهبة.
كما لا يمكن تجاهل النفوذ الإسرائيلي، الذي سعى لفرض وصناعة دكتاتوريات عسكرية لحماية مصالحه، وإغرائها بالمال والسلطة المُطلقة، الفريق محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي في السودان، وحفتر في ليبيا، وأبي أحمد في إثيوبيا.
ولكنْ ثمة سؤال مهم: أين الإرادة الشعبية الإفريقية، ولماذا لا تتصدّى لهذه المخططات التدميرية؟
وهي أسئلة ستجيب وترفع اللثام عنها الأيام القادمة.
عبدالشكور قوريري سهل
كاتب ومحلل سياسي مقيم في الصومال
11/ يناير 2024م